العلاقة الزوجيّة بين التألّق والتدابر
التألّق العاطفيّ الهمود العاطفيّ التدابر العاطفيّ :
ما أجمل البداية .! وما أسعدَ أيّامها ، وأحلى ذكرياتها .! حياة الحبّ العارم يبدآن .. أحلاماً ورديّة ينسجان .. عهوداً صادقة موثّقة يبرمان .. حبّاً متألّقاً ، أعذب من العسل يتبادلان ، ويرتشفان .. في صفاء لا يشوبه ملل أو كَدَر .. وأنس لا يعرف الوحشة والقَتَر ..
حتّى إذا خيّم الخريف بسُحُبِه الثقيلة الواجفة ، ورياحه العاصفة الرادفة .. وفاضت كئوس الهموم من دخانه .. وذوت ورود الحبِّ والشوق على شوك أغصانه ، وافتَقدَ المُحبّان كئوسه المترعة ، ونسيا عهوده المُولعة ، وتلكما الروحين الممتزجتين في الجسد الواحد ..
فأين هاتيك الليالي الممرعة ، والعهود الموثّقة ، والكئوس المترعة .؟!
وأين تلكما الروحان الودودان الممتزجان .؟! كأنّهما الجسد الواحد .؟!
وأين الوفاء المنتظر ، والصفاء الذي لم يشبه كدر .؟!
وأين .. وأين .. لقد أصبح الأين إلى بين ..
أيّها الزوجان السعيدان اليوم انظرا إلى الغد القريب : كيف يمكن للعلاقة بينكما أن تكون .؟! ليكن لكما في ربيع العمر وعَبَق عبيره ما يخيّم على خريف العمر ، ويزيّن بستانه ، وينضّر أفنانه ، ويَسحرُ وُجدانَه ، ويُشجِي ألحانَه ..
وليكن لكما من شذا الرحمة الوارفة ما يعوّض عن ألق الحبّ الذابل ، والودّ الغَابر ..
وليكن لكما من ذكريات رحيق الحبّ ما ينعش الودّ في الفؤاد ، ومن خليقة الوفاء زاد .. ونعم الزاد والعتاد .. وليكن لكما من خصال البرّ ما ينمي المعروف ، ويعظم الأجر ..
وليكن لكما من عزاء المُحبِّين الصادقين أنّ كلّ ما في الدنيا إلى نُقْصَان وزوالٍ ، وأنّ في رضوان الجنّة ، ونعيمها الدائم خيرَ الذخر والمآل .. فلتلتقِ روحاكما على طلب الجِنان ، والتزوّد بما يرضي الرحمن .. فقد أزفت أوازف الرحيل ، ولم يبق من العمر إلاّ القليل ..
ولننظر إلى الأمور نظرة تحليليّة دقيقة ، فإذا اعتبرنا استمرار الحياة الزوجيّة على الوجه الأغلب أربعين سنة : من سنّ الخامسة والعشرين إلى سنّ الخامسة والستّين ، وليكن سنّ الزوجة يقلّ في البداية عن سنّ الزوج خمس سنين ، فيمكننا أنْ نفصّل العلاقة العاطفيّة بين الزوجين في صورتها المثلى إلى الدرَجات أو المراحل التالية :
1 ـ من 1 السنة الأولى ـ إلى 5 السنة الخامسة : الحبّ في صعود (30)
2 ـ من 5 ـ إلى 10 علاقة عاطفيّة متألّقة (35)
3 ـ من 10 ـ إلى 15 علاقة متألّقة ونضجٌ عاطفيّ (40)
4 ـ من 15 ـ إلى 20 الوقوف على القمَّة (45)
5 ـ من 20 ـ إلى 25 روعة الحياةِ على القمَّة (50)
6 ـ من 25 ـ إلى 30 خفوت أضواء الحبّ وصعود مظاهر الرحمة (55)
7 ـ من 30 ـ إلى 35 تنامي الرحمة وضمور الحبّ (60)
8 ـ من 35 ـ إلى 40 إنسانان يستعدّان لتوديع الحياة (65)
بعد عشرين سنة من الزواج تنتهي غالباً مُهمّة الزوجين في إنجابِ الأولادِ ، وتتوسّع فيها مَسْئوليّة رعايتهم ، ويَستقبلُ فيها الزوجان مستوياتٍ أخرى من المسئوليّة والأعباء والتحدّيات ، ألا وهي هموم الدراسة ، والبحث عن فُرَص مستقبل الأولادِ الوظيفيّ والأسريّ والاجتماعيّ .. ويدخل الزوجان بذلك عوالمَ أخرى من الهموم بعيداً عنْ علاقتهم الخاصّة ، ممّا يبعدها شيئاً فشيئاً عن مركز الأولويّة والصدارة ..
وبعد خمس سنوات من ذلك على الأكثر يصبح الزوجان / الوالدان في مرحلة الأجداد والجدّات .. وما تعنيه تلك المرحلة من طبيعة خاصّة ، وعلاقات جديدة مع الأصهار والأحفاد .. وتبتعد مرّة أخرى علاقتهم الخاصّة عنْ مركز الأولويّة والصدارة ..
ولكن هل لهذه المتغيّرات أن تفرضَ على الزوجين الفتور في العلاقة ، كأمر مسلّم به ولا محيص عنه .؟ وهل لهذه المتغيّرات أن تكون ندّاً لعلاقتهم الخاصّة ، يفرض عليها التقهقر إلى مدى لا يستطيع أيّ منهما أن يتوقّعه أو يوقفه .؟
إنّنا نريد لهذه المتغيّرات بكلّ وضوح أن تكون قوّة دعم ومساندة ، لأصل الشجرة وجذورها ، ومصدر تجديد لحيويّتها وعطائها ..
وإنّ التحدّي الأكبر الذي يفرض نفسه على كلّ زوجين : كيف يحفظ الزوجان لهذه العلاقة بريقها وتوهّجها .؟ وينأيان بها عن الهمود والتدابر .؟!
إنّ معرفة هذه الحقائق السابقة بحدّ ذاتها والوعي بها يسهم في تجنّب سلبيّات هذه المتغيّرات ، وتركيز الجهود على إيجابيّاتها .. ولابدّ لنا إضافة إلى ذلك من تسليط الضوء على النقاط التالية :
ـ على كلّ من الزوجين أن يعطي كلّ مرحلة حقّها على أحسن وجه وأتمّه ، لتكون رصيداً وذخراً لما بعدها ، ولأنّ في ذلك توثيقاً لعرا العلاقة وتقوية لها .
ـ إنّ ذكريات الماضي الإيجابيّة المتألّقة خير ما يرطّب جفاف أوراق الخريف ويبسها .. فالذكريات للإنسان عمر ثانٍ
ـ ليس من العقل والحكمة ، ولا يلتقي مع سنن الله في الخلق والحياة أن يتطلّب الإنسان من شريك حياته ، وهو في مرحلة الخمسين والستّين ما يتطلّبه عندما كان في مرحلة الثلاثين والأربعين ..
ـ على كلّ من الزوجين أن يعيشا المرحلة الحاضرة بتكيّف إيجابيّ ، وحيويّة تغلب السلبيّات وتتجاوزها ، ولا يتأتّى لهما ذلك إلاّ بمعرفة حقيقة الدنيا ، وأنّها زائلة فانية ، وأنّ الآخرة هي دار القرار ، وحسن الاستعداد لها بصالح الأعمال ..
وبعد ؛ فإنّ كثيراً من الناس يمنى بصدمة عاطفيّة شديدة عندما يتوقّع لمراحل الزواج المتألّقة أن تدوم كما هي .. وعندما يراها تميل في مراحلها التالية نحو الخبو والفتور ، يذهب مذاهب شتّى في اتّهام شريك حياته أنّه السبب في ضعف العلاقة وسلبيّتها .. ويرمي الطرف الآخر التهمة على الطرف الأوّل .. ويدور الطرفان في حلقة مفرغة من الاتّهامات ، التي ليس وراءها إلاّ مزيد من ضعف العلاقة وفتورها .. والحقيقة دائماً وراء الأوهام ..