فنّ الحوار الراقي بين الزوجين
كثيراً ما شهدنا حواراً بدأ بكلمات منفعلة ، ثمّ تحوّل إلى جدل محتدم ، ثمّ تحوّل إلى سباب وشتائم ، ثمّ تحوّل إلى عراك بالأيدي ، وربّما انتهى بالقتل وسفك الدماء .. وأقلّ أحواله أن ينتهي بالقطيعة بين المتحاورين ، فيقول لك أحدهما : فلان لا يناقش ، ولا يحاور .. وربّما تجنّب لقاءه ومجالسته ..
وقد يتسرّع بعضنا فيقول : إنّ ذلك شأن الجاهلين ، الذين لم ينالوا حظّاً من الثقافة رفيعاً .. ولكنّنا نرى ونسمع عن عراك بالأيدي ، وتضارب وسباب ، في برلمانات أمم ، يمثّل فيها الشعوبَ طبقةٌ من المفترض أن تكون راقية ثقافة وخلقاً .. ممّا يؤكّد لنا على أنّ الحوار فنّ راقٍ ، يحتاج إلى تربية وتدريب ، ولا يتحقّق للإنسان بمجرّد العلم والثقافة ..
وإنّ أحقّ الناس بالتربية والتدريب على فنّ الحوار الراقي من كانوا أوثق الناس علاقة ببعضهم ، وأقربهم صلة ، من الزوجين ، والوالدين مع أولادهم ، والمعلّم مع طلاّبه .. ولعلّ أخطر هذه العلاقة وأهمّها هي العلاقة بين الزوجين ، لما أنّ الخلل فيها يئول إلى عواقب وخيمة ، من فتور العلاقة ، والقطيعة والتدابر ، وربّما أدّى إلى خراب الأسرة ، وشتات أمرها ..
ومن هنا فإنّ تدريب الزوجين على فنّ الحوار الراقي يعدّ من الواجبات العينيّة ، التي ينبغي على الإنسان أن يأخذ نفسه بها .
أهمّيّة الحوار الإيجابيّ بين الزوجين :
الحوار الإيجابيّ بين الزوجين أساس العلاقة السويّة ، والحياة السعيدة ، وغيابه يجعل الأسرة عرضة لأعاصير الخلافات العاصفة على أتفه الأسباب ، لأنّ كل طرف لا يفهم الطرف الآخر .. وذلك ما يقود إلى الطلاق ، وانفصام عرا الزوجيّة ..
وتذكر الكاتبة "سهير الغالي" إحصاءات مثيرة للاهتمام ، بخصوص الحوارات الزوجيّة فتقول : " لقد أصبح "الحوار" من أكثر المواضيع بحثاً ؛ نظراً لأهمية الحوار في عملية الاتّصال والتواصل الإنسانيّ ، ونجاح هذه العلاقات .. كما أنّ انعدام الحوار بين الزوجين من الأسباب الأولى المباشرة المؤدية إلى الطلاق ، وفقاً لما ورد في دراسات عديدة نذكر منها :
1 ـ الدراسة الإحصائية التي أعدّتها " لجنة إصلاح ذات البين " في المحكمة الشرعيّة السنيّة في بيروت ـ لبنان عام 2003 م ، وقد تبين فيها أن انعدام الحوار بين الزوجين هو السبب الرئيس الثالث المؤدي إلى الطلاق .
2 ـ وفي دراسة علمية أعدها الباحث الاجتماعي علي محمد أبو داهش ، والذي عمل(18) سنة في مكاتب الاجتماع بالرياض ، المتخصصة في حلّ المشكلات الاجتماعية ، وأهمّها الطلاق ، تحت إشراف مجموعة من الباحثين الاجتماعيّين ، أوضح أنّ أهمّ أسباب الطلاق المبكر هو عدم النضج ، وعدم التفاهم ، وصمت الزوج .
وأشار أبو داهش إلى أن مشكلة انطواء الأزواج وصمتهم في المنزل أصبحت من القضايا التي تُخصّص لها نقاشات في الندوات العالميّة ، لما لها من تأثير سلبيّ على نفسيّة الزوجة والحياة الزوجيّة بصورة عامّة .
3 ـ وفي دراسة ثالثة ( نُشرت في إحدى صفحات المواقع الإلكترونية ) أُقيمت على نحو مائة سيدة ، اخترن كعينة عشوائية ، بهدف الكشف عن أبرز المشكلات الزوجية التي تواجه أفراد العينة ، تراوحت الإجابات بشكل عام ما بين الصور التالية :
1 ـ بقاء الزوج فترة طويلة خارج المنزل .
2ـ الاختلاف المستمرّ في الآراء ووجهات النظر!
3 ـ رغبة الزوج في الانعزال عن الآخرين ، أو عدم الاختلاط في المجتمع المحيط .
4 ـ انعدام الحوار .
وعندما طُرح في هذه الدراسة ما هو الأسلوب الأمثل لحلّ هذه المشكلات الزوجية تبين أنّ ما يزيد على ( 87% ) من إجابات أفراد العينة يفضّلن الحوار المباشر لحلّ أيّة مشكلات ، وفسّرن ذلك بأنّه أقصر الطرق لحلّ أيّ خلاف ينشب .
كما أشارت نسبة (4%) منهنّ أنهنّ يلجأن لوسائل أخرى لحلّ الخلافات الزوجيّة ، أبرزها كتابة الرسائل المتبادلة ، التي توضح وجهة نظرهنّ في المشكلة .
خطوات مهمّة للتحقّق بالحوار الإيجابيّ بين الزوجين :
1 ـ حسن الاختيار للوقت المناسب للحوار : فما كلُّ وقت يناسب الحوار فيه ، وهذه النقطة يخلّ بها أكثر الأزواج .
2 ـ اختيار الأسلوب الهادئ المباشر : لأنّ العلاقة بين الزوجين ينبغي أن تقوم على الوضوح والصراحة ، فذلك أدعى إلى بناء الثقة ، وتوثيق الروابط .
3 ـ حسن الاختيار للكلمات والأسلوب : فالكلمة تقرّب أو تبعد ، وتحبّب أو تستفزّ وتنفّر .. وكثيراً ما كان الحوار نوعاً من الهجوم ، الذي ينتظر الهجوم المضادّ ، وكأنّ المتكلّم في ساحة معركة ، لا في علاقة حوار ..
4 ـ التحلّي بالرفق والمرونة ، والبعد عن رفع الصوت والانفعال : فمن كانت له حاجة عند أخيه فليتلطّف ، وإنّ الرفق لا يكون في شيء إلاّ زانه ، ولا ينزع من شيء إلاّ شانه ، كما جاء في الحديث الصحيح .
5 ـ تحديد الأمور المتّفق عليها ، للوصول إلى نقطة الخلاف :
6 ـ تفهّم وجهة نظر الطرف الآخر واحترامها :
7 ـ ترك الفرصة المناسبة للطرف الآخر ليعبّر عن وجهة نظره ويوضّحها :
8 ـ التحلّي بالموضوعية والاتّزان ، والاستعداد للتنازل عن الرأي ، لمصلحة المحافظة على سموّ العلاقة الزوجيّة وتوثّقها .
9 ـ ساحة المباح والعفو واسعة ، فوسّع نظرك للأمور ، ولا تضيّق على نفسك ، ولا على شريك حياتك
10 ـ الحوار الراقي يزيد المتحاورين علماً وخبرة بالحياة ، فلا تستهن بما عند الطرف الآخر من رأي ووجهة نظر .
الحوار النفسيّ السلبيّ : وينبغي التنبيه إلى أنّ هناك نوعاً من الحوار النفسيّ السلبيّ عند كثير من الأزاوج ؛ فالحوار عند الإنسان ينقسم إلى حوار داخليّ ، أي أفكارك التي تدور في بالك ، وما تحدّث به نفسك ، وقد يكون حواراً إيجابيّاً أو سلبيّاً ، وحوار خارجيّ ، وهو التعبير اللغويّ ، في موقف معيّن بين الزوجين ..
ويعبّر بعض الناس عن هذا الحوار النفسيّ السلبيّ عندما يقول عن نفسه في التعبير عن شدّة غضبه ، أو تأثّره بما نزل به من مصيبة : " لقد أصبحت أتكلّم مع نفسي .! " ..
فعندما يطلب الزوج أو الزوجة من الطرف الآخر أن يسهر معه وقتاً طويلاً ، ويرفض ذلك ، لأنّه يشعر بالتعب نتيجة أعماله المرهقة في ذلك اليوم ، ويستأذن لينام .
هذا الموقف تختلف فيه ردّات فعل الأزواج أو الزوجات ، وذلك وفقاً للحوار النفسيّ الذي يفعله الرجل ؛ فقد يحدّث الرجل نفسه في هذا الموقف : " إنّها لا تحترمني ..! إنّها لا تقدّر رغباتي ..! لقد احتجّت بالتعب لتتهرّب مني ..! إنّها تتعمد إغضابي ..! إنها أنانية لا تحبني ..! " وكذلك الحال لو كان المثال على الزوجة .. وهو أكثر في النساء بحكم طبيعتهنّ العاطفيّة ، التي تحتاج إلى تقدير ورعاية خاصّة ..
هنا استخدم الرجل أو المرأة الحوار النفسيّ السلبيّ ، ودخل في دائرة من الأفكار السلبيّة ، التي تسبّب مشكلة مع الطرف الآخر ، ربّما تتصعّد وتتضخّم ، وتبنى علىها أمور وأمور ، حتّى تحطّم العلاقة الحميمة بين الزوجين ، وربّما وصلت إلى طلب الطلاق ..
وخير علاج لهذا الحوار النفسيّ السلبيّ المصارحة بين الزوجين ، وأن يتحلّى كلاهما بحسن الظنّ ، والغضّ عن الهفوات ، وتقدير الظروف النفسيّة والاجتماعيّة ، التي يمرّ بها الطرف الآخر .
وأخيراً ؛ فإنّ الحوار الراقي مهارة لا يتقنها أكثر الناس ، وربّما كان الصمت السلبيّ خيراً من حوار يؤجّج الخلاف ، ويجرح القلوب ، ويوهي الروابط .. فلندرّب أنفسنا على مهارة الحوار الراقي ، مع أزواجنا ، وأبنائنا ، وجميع الناس ، فذلك خير لنا ، وأسعد لحياتنا وعلاقاتنا .. والله وليّ التوفيق والسداد .