ماذا بعد الحج؟! هل ستنتهي طاعة الله بانتهاء الحج؟! هل سينتهي ذكْر الله بانتهاء مناسك الحج؟ لا والله، بل الحج مدرسة لغرس حُبِّ الله في القلوب.
مطلوبٌ منْ كلِّ حاجٍّ أن يعود إلى بلده وقد امتلأ قلبه حبا لله ولدين الله؛ ليحيا طيبًا، ويعيش طيبا، ويعمل طيبا، ويأكل طيب؛ قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلَالًا طَيِّبًا وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ﴾ [البقرة: 168]، وقال جل شأنه: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِن طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُوا لِلَّهِ إِن كُنتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ﴾ [البقرة: 172].
ويموت طيبا؛ قال تعالى: ﴿الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ طَيِّبِينَ يَقُولُونَ سَلَامٌ عَلَيْكُمُ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ﴾ [النحل: 32].
ويدخل دار الطيبين؛ قال تعالى: ﴿وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَرًا حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا سَلَامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ﴾ [الزمر: 73].
عباد الله!
إن الهدف من العبادات ليس العبادة فقط، ولكن ما بعدها. فالصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر، ومن لم تنهه صلاته عن الفحشاء والمنكر؛ لم يزدد من الله إلا بعدا.
والصيام ما شُرِعَ إلا لحكمة، وهي غرْس تقوى الله في القلوب؛ قال جل وشأنه: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ﴾ [البقرة: 183].
والزّكاة والصدقة تُطهِّر المؤمنَ من البخل والشح، وتُطفئ غضب الله جل وعلا؛ ﴿خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِم بهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلَاتَكَ سَكَنٌ لَّهُمْ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ﴾ [التوبة: 103]. والحج كذلك، فعلامة قبول العبادة ما بعدها، وعلامة قبول الحسنة الحسنة بعدها، اللهم تقبل منا ولا تَرُدَّنا خائبين برحمتك يا رب العالمين.
إخوتي
بعد اتنهاء المناسك ما المطلوب منا؟ هل سينتهي ذكر الله بهذه المناسك؟!
اسمعوا ماذا يقول الله تعالى. ﴿فَإِذَا قَضَيْتُم مَّنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا فَمِنَ النَّاسِ مَن يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ * وَمِنْهُم مَّن يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ * أُولَئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِّمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ﴾ [البقرة: 200 : 202].
وانقسم الناس بعد ذلك إلى قسمين: قسم همُّه الدنيا يعيش لها، حريص عليها، مشغول بها، حتى إن دعاءه للدنيا.
هؤلاء يعطيهم الله نصيبهم في الدنيا إذا قُدِّر لهم ولا نصيب لهم في الآخرة.
وفريق آخر أفسح أفقًا وأكبر نفسًا؛ لأنه موصولٌ بالله يُريد الحسنة في الدُّنيا ولا يَنسى نصيبه في الآخرة. ﴿مَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِن نَّصِيبٍ﴾ [الشورى: 20].
ويأتي تقسيمٌ آخر للناس بعد آيات الحجِّ يُقسِّم الناس إلى صنفين:
الأول: صنف يتناقض ظاهره مع باطنه؛ يدّعي الإصلاح للأرض، وهو يُفسدها، ومع ذلك يَحلف ويُشهد الله على ما في قلبه. قبل أن يتولى يقول: سأفعل، سأبني، سأصلح الأرض، ولكن ما إن يتولى حتى يُكثر في الأرض الفساد والدمار، وإن قيل له: اتق الله؛ تَكَبَّرَ وأخذته العزة بالإثم مصيره في الآخرة جهنم وبئس القرار، ﴿وَمِنَ النَّاسِ مَن يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ * وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ﴾ [البقرة: 204 – 205].
الثاني: صنف باع نفسه ابتغاء مرضات الله، وسلّمها كلها لله، لا يَبغي من ذلك شيئا، فهو مؤمن خالص لا مداهنة ولا رياء. قال تعالى: ﴿وَمِنَ النَّاسِ مَن يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ﴾ [البقرة: 207].
عباد الله! إن من حكم الحج العظيمة غرْس عظمة الله في القلوب، والاطمئنان بذكْره في كل حين.
فذكر الله بعد الحج؛ ﴿فَإِذَا قَضَيْتُم مَّنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا﴾ [البقرة: 200].
ذكر الله بعد الصلاة -جمعة أو غيرها-؛ ﴿فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِن فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَّعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾ [الجمعة: 10].
ذكر الله في ساعة تسقط فيها الجماجم، وتَسيل فيها الدماء في ساحة الجهاد؛ ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَّعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾ [الأنفال: 45].
ذكْر الله ليس تحريكَ الشفتين بالتسبيح والتحميد والتهليل فقط، لا بل مطلوبٌ أن تذكر الله يا عبد الله في كل حين، تذكر الله حالَ النعمة -أيّ نعمة- فتشكره عليها، تذكره حال المصيبة -أي مصيبة- فتحمد الله عليها، وتعلم أنه هو الذي قدَّرها، وتقول: إنا لله، وإنا إليه راجعون.
تَذْكُرُ الله أمام الحرام، فتقول: معاذ الله خالقي ورازقي.
عباد الله! اذكروا الله ذكرًا كثيرًا، ولا تذكروه قليلا، فالمنافقين لا يَذكرون الله إلا قليلا، والمؤمنون يذكرون الله كثيرًا. قال تعالى: ﴿كَيْ نُسَبِّحَكَ كَثِيرًا * وَنَذْكُرَكَ كَثِيرًا﴾ [طه: 33- 34].
وقال تعالى: ﴿إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَذَكَرُوا اللَّهَ كَثِيرًا وَانتَصَرُوا مِن بَعْدِ مَا ظُلِمُوا وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنقَلَبٍ يَنقَلِبُونَ﴾ [الشعراء: 227].
وقال تعالى: ﴿لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا﴾ [الأحزاب: 21].
وقال تعالى: ﴿وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُم مَّغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا﴾ [الأحزاب: 35]، ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا﴾ [الأحزاب: 41].
وقال تعالى: ﴿فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِن فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَّعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾ [الجمعة: 10].
وهكذا يا عبد الله، تذكر الله في كل ساعة، وفي كل حين؛ ليُثبِّتَك عند الموت بلا إله إلا الله يثبت الله.
اللهم ثبِّتْنا بالقول الثابت في الحياة الدنيا والآخرة يا رب العالمين. اللهم تُبْ علينا توبة صادقة نصوحًا. اللهم اغفر لنا وارحمنا برحمتك يا أرحم الرَّاحمين، سبحانك اللهم وبحمدك نستغفرك ونتوب إليك. أشهد أن لا إله إلا أنت، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا.