العبادة وفروعها
سُئل الشيخ الإمام العلامة محي السنة ومميت البدعة أبو العباس أحمد بن تيمية رضي الله عنه وأرضاه ، عن قوله عز وجل : ( يا أيها الناس اعبدوا ربكم ) ، فما العبادة وفروعها ؟؟ وهل مجموع الدين داخل في العبادة أم لا ؟؟ وما حقيقة العبودية ؟؟ وهل هي أعلى المقامات ، أم فوقها من المقامات ؟؟..
وليبسط لنا القول في ذلك :
فأجاب رحمه الله :
العبادة هى اسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه من الأقوال والاعمال الباطنة والظاهرة فالصلاة والزكاة والصيام والحج وصدق الحديث وأداء الامانة وبر الوالدين وصلة الأرحام والوفاء بالعهود والأمر بالمعروف والنهى عن المنكر والجهاد للكفار والمنافقين والإحسان الى الجار واليتيم والمسكين وابن السبيل والمملوك من الآدميين والبهائم والدعاء والذكر والقراءة وأمثال ذلك من العبادة وكذلك حب الله ورسوله وخشية الله والإنابة إليه وإخلاص الدين له والصبر لحكمه والشكر لنعمه والرضا بقضائه والتوكل عليه والرجاء لرحمته والخوف لعذابه وأمثال ذلك هى من العبادة لله ..
وذلك إن العبادة لله هى الغاية المحبوبة له والمرضية له التى خلق الخلق لها كما قال تعالى : ( وما خلقت الجن والانس إلا ليعبدون ) ، وبها أرسل جميع الرسل كما قال نوح لقومه : ( اعبدوا الله مالكم من إله غيره ) ، وكذلك قال هود وصالح وشعيب وغيرهم لقومهم ..
وقال تعالى : ( ولقد بعثنا فى كل أمة رسولاً أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت فمنهم من هدى الله ومنهم من حقت عليه الضلالة ) ، وقال تعالى : ( وما أرسلنا من قبلك من رسول إلا نوحى إليه أنه لا إله إلا أنا فاعبدون ) ، وقال تعالى : ( وإن هذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم فاعبدون ) ، كما قال فى الآية الاخرى : ( يا أيها الرسل كلوا من الطيبات واعملوا صالحا إنى بما تعملون عليم ) ، وجعل ذلك لازماً لرسوله الى الموت قال : ( واعبد ربك حتى يأتيك اليقين ) ..
وبذلك وصف ملائكته وأنبياءه فقال تعالى : ( وله من فى السموات والأرض ومن عنده لايستكبرون عن عبادته ولا يستحسرون يسبحون الليل والنهار لا يفترون ) ، وقال تعالى : ( إن الذين عند ربك لا يستكبرون عن عبادته ويسبحونه وله يسجدون ) ، وذم المستكبرين عنها بقوله : ( وقال ربكم ادعونى أستجب لكم إن الذين يستكبرون عن عبادتى سيدخلون جهنم داخرين ) ، ونعت صفوة خلقه بالعبودية له فقال تعالى : ( عيناً يشرب بها عباد الله يفجرونها تفجيراً ) ، وقال Sad وعباد الرحمن الذين يمشون على الأرض هوناً ) ، وقال : ( قال رب بما أغويتنى لأزينن لهم فى الارض ولأغوينهم أجمعين إلا عبادك منهم المخلصين ) ، قال الله تعالى : ( إن عبادى ليس لك عليهم سلطان إلا من اتبعك من الغاوين ) ..
وقال فى وصف الملائكة بذلك : ( وقالوا اتخذ الرحمن ولداً سبحانه بل عباد مكرمون لا يسبقونه بالقول وهم بأمره يعملون ) إلى قوله : ( وهم من خشيته مشفقون ) ، وقال تعالى : ( وقالوا اتخذ الرحمن ولداً لقد جئتم شيئاً إداً تكاد السموات يتفطرن منه وتنشق الأرض وتخر الجبال هداً أن دعوا للرحمن ولداً وما ينبغى للرحمن أن يتخذ ولداً إن كل من فى السموات والأرض إلا ءاتى الرحمن عبداً لقد أحصاهم وعدهم عداً وكلهم آتيه يوم القيامة فرداً ) ..
وقال تعالى عن المسيح الذي ادعيت فيه الإلهية والنبوة : ( إن هو إلا عبد أنعمنا عليه وجعلناه مثلا لبنى إسرائيل ) ، ولهذا قال النبى صلى الله عليه وسلم فى الحديث الصحيح : [ لا تطرونى كما أطرت النصارى عيسى بن مريم فإنما أنا عبد فقولوا عبد الله ورسوله ] ..
وقد نعته الله بالعبودية فى أكمل أحواله فقال فى الإسراء : ( سبحان الذى أسرى بعبده ليلاً ) ، وقال فى الإيحاء : ( فأوحى إلى عبده ما أوحى ) ، وقال فى الدعوة Sad وأنه لما قام عبد الله يدعوه كادوا يكونون عليه لبداً ) ، وقال فى التحدى : ( وإن كنتم فى ريب مما نزلنا على عبدنا فأتوا بسورة من مثله ) ، فالدين كله داخل فى العبادة ..
وقد ثبت فى الصحيح : [ أن جبريل لما جاء إلى النبى صلى الله عليه وسلم فى صورة أعرابى وسأله عن الإسلام ؟ قال : أن تشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله وتقيم الصلاة وتؤتى الزكاة وتصوم رمضان وتحج البيت إن استطعت إليه سبيلاً ، قال : فما الإيمان ؟ قال : أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله والبعث بعد الموت وتؤمن بالقدر خيره وشره ، قال : فما الإحسان ؟ قال : أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك ، ثم قال فى آخر الحديث : هذا جبريل جاءكم يعلمكم دنيكم ] ، فجعل هذا كله من الدين ، والدين يتضمن معنى الخضوع والذل يقال : دنته فدان أى ذللته فذل ، ويقال : يدين الله ويدين لله أي يعبد الله ويطيعه ويخضع له فدين الله عبادته وطاعته والخضوع له ..
والعبادة أصل معناها الذل أيضاً يقال : طريق معبد إذا كان مذللاً قد وطئته الأقدام ..
لكن العبادة المأمور بها تتضمن معنى الذل ومعنى الحب ، فهى تتضمن غاية الذل لله ممزوجاً بغاية المحبة له ، فإن آخر مراتب الحب هو التتيم ، وأوله العلاقة لتعلق القلب بالمحبوب ، ثم الصبابة لا نصباب القلب إليه ، ثم الغرام وهو الحب اللازم للقلب ، ثم العشق ، وآخرها التتيم ، يقال تيم الله أى عبد الله ، فالمتيم المعبد لمحبوبه ..
ومن خضع لإنسان مع بغضه له لايكون عابداً له ، ولو أحب شيئاً ولم يخضع له لم يكن عابداً له ، كما قد يحب ولده وصديقه ، ولهذا لا يكفى أحدهما فى عبادة الله تعالى ، بل يجب أن يكون الله أحب إلى العبد من كل شئ وأن يكون الله أعظم عنده من كل شئ بل لا يستحق المحبة والذل التام إلا الله ..
وكل ما أحب لغير الله فمحبته فاسدة ، وما عظم بغير أمر الله كان تعظيمه باطلاً ، قال الله تعالى : ( قل إن كان ءاباؤكم وأبناؤكم وإخوانكم وأزواجكم وعشيرتكم وأموال اقترفتموها وتجارة تخشون كسادها ومساكن ترضونها أحب إليكم من الله ورسوله وجهاد فى سبيله فتربصوا حتى يأتى الله بأمره ) ، فجنس المحبة تكون لله ورسوله كالطاعة ، فإن الطاعة لله ورسوله ، والإرضاء لله ورسوله : ( والله ورسوله أحق أن يرضوه ) ، والإيتاء لله ورسوله : ( ولو أنهم رضوا ما آتاهم الله ورسوله ) ..
(يتبع)