الذين يتحدثون عن حرية المرأة تحار عن أي حرية يتحدثون؟ حيث إنك إذا تأملت في دعاواهم لم تجد إلا بريقاً زائفاً يخدع الأبصار، والجوهر يفتقر لأي قيمة ذات بال، فالحرية والعدل صنوان لا يصح أن يجني أحدهما على الآخر ؛ بينما هم قد انتهكو العدل والقسط في دعوى مطالباتهم بالحرية المزعومة.
ومحال أن تكون هناك حرية حقيقة تجني على مبدأ العدل والحق، كما أنه من المحال أن يكون هناك حق وعدل يجني على الحرية الشرعية للإنسان، ولذلك مثلاً عندما أعلنت أمريكا أن حملتها على العراق لتحقيق الحرية، فانتهكت الأعراض، وخربت البلاد، وأهلكت الحرث والنسل، شهد العالم أن هذا هو الظلم والعدوان والبغي والفساد، وإن أسمتها أمريكا وحلفاؤها ما أسمتها، فالعبرة بالحقائق والمقاصد، لا بالدعاوى والأكاذيب.
وهكذا هم دعاة حرية المرأة في عصرنا الحاضر، يريدون إخراجها من النور إلى الظلمات، ومن السعادة إلى الشقاء، ومن العدل إلى الظلم والبغي، والفرع إذا عاد على الأصل بالفساد فهو باطل.
ويجب أن نفرق ونحن نتحدث عن هذه القضية بين ما شرعه الإسلام للمرأة، وما قرره من قواعد وأصول ومنطلقات في كل شؤون حياتها، وبين بعض الممارسات الظالمة من بعض المسلمين جهلاً أو عدواناً في شأن المرأة، كما هو واقع في كثير من شؤون الحياة في حق الرجال أو النساء أو الأموال أو الأعراض، وهلم جرّا.
فالقسم الثاني لا يسلم منه شعب أو بلد، وليس خاصاً بالمسلمين، لذا هو عمل بشري لا علاقة للإسلام به، فلا يحمل وزره "وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى" (الأنعام: من الآية164).
كما أنه ليس خاصاً بالمرأة، بل واقع عليها وعلى غيرها.
ومن هنا فحصر الحديث عن انتهاك حرية المرأة، وإلصاق ذلك بالإسلام، هو خروج عن الحرية، ووقوع في الظلم والبغي والعدوان، ودعونا نتجاوز هذه المقدمة على أهميتها إلى النظر والتأمل في بعض دعاوى أولئك، ومدى مصداقيتها.
فمثلاً: المطالبة بمساواة المرأة بالرجل في الحقوق والواجبات، باسم تحقيق الحرية يجعلنا نتساءل لماذا لا يطالبون بالمساواة بين الرجال بعضهم ببعض، وهم يشاهدون هذا البون الشاسع في حقوق وواجبات الرجال منذ عرفت البشرية، فهذا سيّد وهذا مسود، وهذا أمير وهذا مأمور، وآخر يأخذ أعلى المرتبات وذاك ينال أدناها، وهلم جرّا، الجواب الطبيعي أن هذا الأمر لاختلاف الأفراد في نشأتهم وتعلمهم وعقولهم ومواهبهم، فنقول: لماذا جاز هذا في حق الرجال، ولم يجز في الشأن بين النساء والرجال. كما أنهم هم يمارسون التفرقة في بيوتهم ودولهم، ومؤسساتهم بينهم وبين نسائهم، بل لا توجد أمة من الأمم ساوت بين الرجال والنساء، حتى أعلاها صراخاً في هذا الشأن، والحقيقة خير شاهد، فكم عدد النساء اللاتي تولين رئاسة أمريكا منذ نشأتها؟ وكم نائب للرئيس من النساء منذ استقلالها، بل كم نسبة النساء إلى الرجال في مجالس قيادتها كمجلس النواب والكونغرس وغيرها؟
إنها الدعاوى التي يخالفها الواقع وتدمغها الحقائق.
ولو أخذنا موضوع سفر المرأة في الإسلام ووجوب وجود محرَم لها، وادعاؤهم أن هذا يقيد حرية المرأة، فنقول لهم: هل رأيتم رئيس دولة أو كبير قوم سافر وحده، ولماذا هو هنا مشروع وممتدح، وهناك ممنوع وتقييد للحرية، أليس المحرَم إذا سافر مع من هو محرم لها يقوم بصيانتها وحراستها وحفظها وخدمتها، وهي سيدة معززة مكرمة مصونة تأوي إلى ركن شديد، فأي فرق بين الأمرين إن كنتم تعقلون؟!
ونختم بمثال ثالث مما يكثرون الدندنة حوله في دعوى مطالباتهم بحرية المرأة، وهو موضوع القوامة.
والجواب أنه كما لا تستقيم حياة البشر إلا بالنظام وتحديد الاختصاصات وفق الإمكانات والقدرات والمواهب، ولذلك فهم يعترفون بقوامة الرئيس على المرؤوسين، والوزير على من تحت يده، وقائد الجيش على جنوده، وهكذا وهو أمر مسلَّم تتوارثه البشرية منذ وجدت على ظهر الأرض، لا ينازع في ذلك عاقل، أو ينكره سوي. فكذلك قوامة الرجل على المرأة تدخل ضمن هذا الأصل والمنطلق، وإلا فسدت الأرض، واختل النظام، وحدثت الفوضى. وإذا كانت قوامة الأمير والوزير والقائد ليست مطلقة، فكذلك هي في قوامة الرجل على المرأة لها ضوابطها وشروطها وأصولها، بل إن الشريعة جعلت من الضوابط في موضوع القوامة ما لا نجده من ضوابط البشر في قوامة الرؤساء والوزراء والقادة، فأي الفريقين أحق بالعدل إن كنتم تعلمون؟
وخلاصة القول: إن القضية التي يتحدثون عنها لا رصيد لها عند التأمل والتدبر، وهي مسألة صنعت من فراغ، أو نقلت من حيز العمل البشري الذي يعتريه الظلم والنقص إلى أن تلصق بالإسلام ظلماً وحيدةً وعدواناً.
وواجب الأمة أن تكون عند حدود مسؤوليتها، وأن تعي ما يكاد لها، وألا تخدع فيما يطلق خصومها ومنافقوا أمتها، وأن تتجاوز اللحظة الحاضرة إلى النظر والتدبر والتأمل قبل الاستسلام والخضوع لكل ناعق ومنافق.
ومن هنا، ولأهمية هذا الأمر، ولبيان الحق، وإزالة اللبس، والإجابة على بعض ما يحدث في ا لنفس من شبهة أو سؤال جاء ملف (المسلمة) تتصدره هذه الوثيقة التي صهرها هذا الجمع الغفير من علماء الأمة ومفكريها وعقلائها رجالاً ونساءً؛ لتكون نبراساً يضيء الطريق، ويزيل الشبهة، ويوقف على الحقيقة، "يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ" (التوبة:32)، وجاء توقيت هذا الملف لما تمر به الأمة عموماً وبلادنا خصوصاً من هجمة شرسة من أعداء الأمة والملة ويتحمل وزرها العلمانيون والمخدوعون الذين "ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيراً وَضَلُّوا عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ" (المائدة: من الآية77).