لعنة الاستفتاء
اختصر الكثيرون السودان في قضية استفتاء أبناء الجنوب على الانفصال.لم يعد هناك ما ينقل من السودان أو عنه في تصريحات المسؤولين إلا ما يتعلق بمصير الجنوب وأهله وما إذا كان الاستفتاء سيعقد أو أن الانفصال سيجري بغض النظر عن الاستفتاء.
كل ما هو مطروح لا يتحدث عن مصير السودان بل عن حق الجنوبيين في الانفصال،وفى ذلك تكمن أبجديات اللعبة الجارية،إذ هذا البلد ليس مقبلا على استفتاء لقطاع من أبنائه حول انفصالهم،بل الأصل أن السودان يواجه قرارا بتقسيمه،يأتي الاستفتاء لإكمال إجراءاته الشكلية.الأصل أن السودان يفكك ويقسم وليس أن الجنوب يمنح أبناءه حق الانفصال.الحادث الآن أن لا أحد يتحدث لا عن الأصل وهو السودان.
الأنباء والتصريحات الصادرة من داخل السودان وعن الأطراف الدولية المنغمسة في قضية تقسيم السودان،خاصة الولايات المتحدة،تنبئ بأن معركة حادة تجري حول تقسيم السودان لا حول الاستفتاء،وتلك هي لعنة مثل هذا الاستفتاء.
وأول ما يلفت النظر في تلك المعركة أو في لعنة الاستفتاء،هو أن ثمة أطرافا حسمت نتيجة الاستفتاء قبل إجرائه،ولم تعد تلق بالا لأصوات الناخبين بل لشكلية إجراء الاستفتاء.أول هذه الأطراف هو الولايات المتحدة الأمريكية التي لم تعد تتحدث إلا عن انفصال الجنوب –أي تقسيم السودان لكن بتحويل التقسيم إلى فعل إيجابي بإظهاره تحقيقا لحق تقرير مصير الجنوب-وعن ميلاد دولة جديدة في الأمم المتحدة،وأن على الحكومة السودانية أن تعترف بها وإن لم تعترف ستواجه العقوبات الأشد وإن اعترفت فلها محفزات.هي صارت تدعو الدول الأخرى والمجتمع الدولي للضغط على الحكم في السودان باعتباره يراوغ ويحاول منع قيام دولة للجنوبيين، وتحشد الرأي العام الأمريكي والدولي بهذا الاتجاه وتعقد المؤتمرات الدولية الموسعي تحت نفس العنوان.وثاني هذه الأطراف هو الحركة الشعبية،التي مهدت طوال الشهور الأخيرة،إلى هذا الانفصال أو هي تكاد تكون قد أعلنته بشكل قاطع،عبر تصريحات تهدد الحكم في السودان من مغبة عدم الاعتراف بنتيجة الاستفتاء وتطبيق حق تقرير المصير والاعتراف بالدولة الجديدة،أو عبر تصريحات تحذر من إعلان الانفصال بطرق أخرى في حال تعذر عقد الاستفتاء (من داخل برلمان السودان –أو من فوق أرض الجنوب من خلال مؤسسات الحكومة الحالية أو غيرها) أو من خلال إعلان نتيجة الاستفتاء من الآن بالتشديد على أن تصويت الجنوبيين للانفصال مؤكد،في إشارة لعدم الاعتراف بنتيجة الاستفتاء إذا جاء على عكس ذلك.وهى أعلنت نتيجة الاستفتاء من خلال السلوكيات في التفاوض مع الحكم في الداخل أو مع الدول الأخرى،إذ يجري تعمد استخدام أدبيات وآليات الدولة المستقلة في كل التعاملات.
وثاني ما يلفت النظر،هو أن ما يطرح من قبل الحكم في السودان، يظهر مدى التعقيدات المتعلقة بإمكانية عقد الاستفتاء في موعده، ويشي بأن هناك محاولة للضغط على الحكم لإنجاز انفصال الجنوب بغض النظر عن نتيجة الاستفتاء وإجراءاته،وربما يستنتج المتابع أن الحكم يقول للناس إن الحكم يشهد أهل السودان على أن الحركة الشعبية هي من يعقد الأمور لعدم الوصول إلى الاستفتاء،وفتح الطريق أمام طرق أخرى لإعلان الانفصال.
من جانب، يتحدث ممثلو حزب المؤتمر الوطني الحاكم وأعضاء اللجان المكلفة بإنجاز ترتيبات ما قبل إجراء الاستفتاء، عن صعوبات حقيقية عديدة على صعيد السياسة والجغرافيا والاقتصاد والقانون،ما تزال تحتاج إلى وقت مطول لإنجازها،بدءا من مشكلة نصيب الجنوب والشمال في ديون السودان مرورا بتعيين الحدود وحل الخلافات الجارية حول العديد من المناطق التي سيمر بها خط تقسيم البلاد وصولا إلى قضية المواطنة بمختلف جوانبها،بما في ذلك كشوف الناخبين والتأكد من هويات المصوتين..الخ.
ومن جانب ثان،يشكو الحكم من أن الأطراف الأخرى لم تنفذ التزاماتها الواردة في اتفاق نيفاشا الذي يعتبر الاستفتاء أحد استحقاقاته.الحركة الشعبية لم تنجز أعمال انسحاب قواتها من الشمال ولم تعد تموضعها في نقاط محددة عينها الاتفاق في الجنوب،كما الحريات لكل أبناء السودان في التنقل والحركة وطرح رؤاها السياسية بشأن الاستفتاء على أبناء الجنوب لم تتحقق إذ تعيقها هو الحركة الشعبية وحكومة الجنوب،فضلا عن أن ممثلي تلك الحكومة والحركة يعوقون التوصل لاتفاقات منصوص عليها في الاتفاق،وأن التأخير والتعويق يبدو متعمدا.كما يشكو الحكم من أن الولايات المتحدة وبقية رعاة الاتفاق لم ينجزوا وعودهم المالية -المرتبطة بتوقيع الاتفاق – ومن ثم هم المسؤولون عن تعويق جعل الوحدة جاذبة،إذ كانت تلك الأموال مخصصة لتنمية الجنوب..الخ.
ومن جانب ثالث،يبدي الحكم إصرارا في تأكيد التزامه بإنفاذ الاتفاق وإجراء الاستفتاء،وأنه لم يغير موقفه.
وثالث ما يلفت النظر فيما يجري بشأن الاستفتاء،هو أن القوى السياسية الأخرى في السودان –بخلاف المؤتمر الوطني والحركة الشعبية-قد غاب صوتها على نحو واضح في الأسابيع الأخيرة،ولم تعد تبدي آراءها فيما يجرى،إذ لم تعد هناك تحركات مشتركة للمعارضة السودانية أو طرح مبادرات أو غيرها،اللهم إلا تكرار حكاية تحميل أطراف الحكم المسؤولية عما يجرى أو طلب تدخل المجتمع الدولي..الخ.
نحن إذن أمام وضع مرتبك مختلط الأوراق،وحالة تضاغط بين الداخل والخارج وأمام صعوبات في تنفيذ الاستفتاء وفي مواجهة اتهامات متبادلة بالتعطيل،وقبل كل ذلك نحن نشهد محاولة متعددة الاتجاهات للقفز على أصوات ناخبي الجنوب وإعلان الانفصال،وكل تلك الأمور تشي بأن الأوضاع قد تتحول بالسودان إلى مشهد آخر،وأنها مقدمات قد تفضي إلى تحول خطير.
مأزق الحكم
واقع الحال أن الحكم في السودان يعيش مأزقا خطيرا الآن.هو يجد نفسه مدفوعا إلى إنفاذ الاستفتاء باعتباره وقع على اتفاق يشمل إجراؤه،وبحكم أن الدول الراعية للاتفاق هي دول تسيطر على القرار الدولي ويعتبر تحديها أمرا خطيرا.وهو يرى في الجانب الآخر أنه إذا وافق على انفصال الجنوب،إنما يكون قد فعل ما لم تفعله أي حكومة سودانية منذ الاستقلال،وأن الأمر جسيم التأثير على وضع السودان ومستقبله ليس فقط كقيمة تاريخية وإنما على صعيد استقرار الحكم الآن وغدا أيضا.وفى الأمر ما يظهر أن الحكم في السودان،بات يدرك أكثر من أي وقت مضى أن هذا الانفصال لن يكون أداة لرفع الحصار عن السودان كله،وأن من يطاردونه ويطاردون رئيسه بالمحاكمة بتهم ارتكاب جرائم حرب سيواصلون مطاردة السودان ورئيسه.وأن فتح ملف دارفور وتعويق إمكانية حل هذا الملف،تؤكد له أن إغلاق ملف الجنوب لن ينهي حالة المطاردة للحكم بل سيجعل الآخرين يطورون الهجوم ضده في موضع آخر.ويزيد من مخاطر تلك التقديرات حجم الارتباط بين مشكلتي دارفور والجنوب،والدور الذي لعبته الحركة الشعبية في تأجيج مشكلة دارفور وتعويق الوصول إلى حلول بشأنها.
بالدقة يبدو الحكم واقع في دائرة مغلقة عليه بالمطاردة بين الداخل والخارج،وهو لا يستطيع أن يثق بأي وعود يمكن أن تقدم له،إذ تجربته طوال السنوات الماضية منعت عنه الشعور بالثقة في الأطراف الأخرى.ومن ثم فإن الحكم في وضع المأزق وتضيق خياراته،ولاشك يدرك يوما بعد يوم،حجم التعقيدات التي يجب أن تراعيها استراتيجيته في العامل مع هذا الوضع المعقد.
مأزق الحركة الشعبية
لكن لعنة الاستفتاء لم تصب الحكم فقط،أو أن الحكم ليس وحده هو الذي يعيش حالة الأزمة،إذ الحركة الشعبية هي الأخرى تعيش مأزقا.من ناحية هي تعمل وفق استراتيجية الانفصال عن السودان وتمارس أوسع وأعمق الضغوط لتحقيق هذا الهدف،لكنها تعلم أن عدم موافقة الحكم في السودان أو لنقل عدم استسلامه لفكرة الانفصال –دون حرب-ينهي كل آمالها في تحقيق الهدف الأعلى المتمثل في الحصول على عائد الثروة البترولية التي هي المحرك والدافع لبناء السلطة في الجنوب وإعلان الدولة.إن اندلاع الحرب من جديد حول جنوب السودان وعلى أراضي تلك البقعة هو ما تخشاه الحركة الشعبية الآن وأكثر من أي وقت مضى.ومن ناحية أخرى،تبدو الأوضاع في الجنوب غير مستقرة على النحو الذي يجعلها تفتح باب ممارسة الضغوط على الحكم في السودان إلى أبعد مدى،إذ كل مواجهة مفتوحة مع الحكم في السودان قد تفجر الجنوب أيضا،
في تلخيص الوضع الراهن،فالحكم في السودان لا يجد مخرجا مريحا أو مربحا أو حتى معقولا أو ممكنا يحقق له أيا من الأهداف الاستراتيجية،والحركة الشعبية تنشد حلا لا تتوفر له مقومات كاملة في أرض الواقع،والولايات المتحدة تنشد خروجا من المأزق دون معوقات خطيرة.والخلاصة أن إمكانية الوصول إلى حل مرض أو يحقق مصالح كل الأطراف غير ممكن.والاحتمالات في تطورات الوضع الراهن،يمكن تصورها وفق عدة سيناريوهات،مع الاعتراف مسبقا وبشكل واضح،بأن الخيارات مفتوحة لتطورات غير متوقعة،رغم كل المؤشرات والتصريحات التي تؤكد على السير نحو إنجاز الاستفتاء.
موضوع: ماذا يجري في العالم (لعنة الاستفتاء في السودان) 
الأحد نوفمبر 28, 2010 1:34 pm
ندىىىىىىى اسعدني مرورك المعطر
