حكم الاستغاثة بالنبي
سئل الشيخ بن تيمه رحمه اللّه عمن قال: يجوز الاستغاثة بالنبي صلى الله عليه وسلم في كل ما يستغاث اللّه تعالى فيه: على معنى أنه وسيلة من وسائل اللّه تعالى في طلب الغوث، وكذلك يستغاث بسائر الأنبياء والصالحين في كل ما يستغاث اللّه تعالى فيه.
وأما من توسل إلى الله تعالى بنبيه في تفريج كربة فقد استغاث به، سواء كان ذلك بلفظ الاستغاثة، أو التوسل، أو غيرهما مما هو في معناهما، وقول القائل: أتوسل إليك يا إلهى برسولك ! أو أستغيث برسولك عندك، أن تغفر لى، استغاثة بالرسول حقيقة في لغة العرب وجميع الأمم.
قال: ولم يزل الناس يفهمون معنى الاستغاثة بالشخص، قديما وحديثا، وأنه يصح إسنادها للمخلوقين، وأنه يستغاث بهم على سبيل التوسل، وأنها مطلقة على كل من سأل تفريج الكربة بواسطة التوسل به، وأن ذلك صحيح في أمر الأنبياء والصالحين.
قال: وفيما رواه الطبرإني عن النبي صلى الله عليه وسلم: أن بعض الصحابة رضي اللّه عنهم قال: استغيثوا برسول اللّه صلى الله عليه وسلم من هذا المنافق، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "إنه لا يستغاث بى، وإنما يستغاث باللّه".
أن النبي صلى الله عليه وسلم لو نفي عن نفسه أنه يستغاث به، ونحو ذلك، يشير به إلى التوحيد، وإفراد البارى بالقدرة، لم يكن لنا نحن أن ننفي ذلك، ونجوز أن نطلق أن النبي صلى الله عليه وسلم والصالح يستغاث به، يعنى في كل ما يستغاث فيه باللّه تعالى، ولا يحتاج أن يقول على سبيل أنه وسيلة وواسطة، وأن القائل لا يستغاث به متنقصا له، وأنه كافر بذلك، لكنه يعذر إذا كان جاهلا، فإذا عرف معنى الاستغاثة ثم أصر على قوله بعد ذلك صار كافرًا
والتوسل به استغاثة به كما تقدم، فهل يعرف أنه قال أحد من علماء المسلمين: إنه يجوز أن يستغاث بالنبي صلى الله عليه وسلم والصالح، في كل ما يستغاث به اللّه تعالى؟ وهل يجوز إطلاق ذلك؟ كما قال القائل، وهل التوسل بالنبي صلى الله عليه وسلم أو الصالح أو غيرهما إلى اللّه تعالى في كل شىء استغاثة بذلك المتوسل به؟ كما نقله هذا القائل عن جميع اللغات، وسواء كان التوسل بالنبي صلى الله عليه وسلم أو الصالح استغاثة به، أو لم يكن، فهل يعرف أن أحدا من العلماء قال: إنه يجوز التوسل إلى اللّه بكل نبي وصالح؟ فقد أفتى الشيخ عز الدين ابن عبد السلام في فتاويه المشهورة: أنه لا يجوز التوسل إلى اللّه تعالى إلا بالنبي صلى الله عليه وسلم إن صح الحديث فيه، فهل قال أحد خلاف ما أفتى به الشيخ المذكور ؟
وبتقدير أن يكون في المسألة خلاف، فمن قال: لا يتوسل بسائر الأنبياء والصالحين، كما أفتى الشيخ عز الدين؟ هل يكفر كما كفره هذا القائل؟ ويكون ما أفتى به الشيخ كفرًا، بل نفس التوسل به لو قال قائل: لا يتوسل به،
ولا يستغاث به، إلا في حياته وحضوره، لا في موته ومغيبه، هل يكون ذلك كفرًا؟ أو يكون تنقصا ؟
ولو قال: ما لا يقدر عليه إلا اللّه تعالى لا يستغاث فيه إلا باللّه، أى: لا يطلب إلا من اللّه تعالى هل يكون كفرًا، أو يكون حقا؟ وإذا نفي الرسول صلى الله عليه وسلم عن نفسه أمرًا من الأمور لكونه من خصائص الربوبية، هل يحرم عليه أن ينفيه عنه أم يجب، أم يجوز نفيه؟ أفتونا رحمكم اللّه بجواب شاف كاف، موفقين مثابين إن شاء اللّه تعالى.
الجواب :
الحمد للّه رب العالمين. لم يقل أحد من علماء المسلمين: إنه يستغاث بشىء من المخلوقات، في كل ما يستغاث فيه باللّه تعالى، لا بنبي، ولا بملك، ولا بصالح، ولا غير ذلك، بل هذا مما يعلم بالاضطرار من دين الإسلام، أنه لا يجوز إطلاقه.
ولم يقل أحد: إن التوسل بنبي، هو استغاثة به، بل العامة الذي ن يتوسلون في أدعيتهم بأمور، كقول أحدهم: أتوسل إليك بحق الشيخ فلان، أو بحرمته، أو أتوسل إليك باللوح والقلم، أو بالكعبة، أو غير ذلك، مما يقولونه في أدعيتهم، يعلمون أنهم لا يستغيثون بهذه الأمور، فإن المستغيث بالنبي صلى الله عليه وسلم طالب منه وسائل له، والمتوسل به لا يدعى ولا يطلب منه ولا يُسأل، وإنما يُطلب به، وكل أحد يفرق بين المدعو والمدعو به.
والاستغاثة طلب الغوث، وهو إزالة الشدة، كالاستنصار طلب النصر، والاستعانة طلب العون، والمخلوق يطلب منه من هذه الأمور ما يقدر عليه
منها، كما قال تعالى: {وَإِنِ اسْتَنصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعليكم النَّصْرُ} [الأنفال: 72]، وكما قال: {فَاسْتَغَاثَهُ الذي مِن شِيعَتِهِ عَلَى الذي مِنْ عَدُوِّهِ} [القصص: 15]، وكما قال تعالى: {وَتَعَاوَنُواْ عَلَى الْبرِّ وَالتَّقْوَى} [المائدة:2]. وأمَّا ما لا يقدر عليه إلا الله، فلا يطلب إلا من اللّه؛ ولهذا كان المسلمون لا يستغيثون بالنبي صلى الله عليه وسلم ويستسقون به، ويتوسلون به، كما في صحيح البخارى: أن عمر بن الخطاب رضي اللّه عنه استسقى بالعباس وقال: اللهم إنا كنا إذا أجْدَبْنَا نتوسل إليك بنبينا فتسقينا، وإنا نتوسل إليك بعم نبينا فاسقنا فيسقون.
وفي سنن أبى داود: أن رجلًا قال للنبي صلى الله عليه وسلم: إنا نستشفع باللّه عليك، ونستشفع بك على اللّه، فقال: "شأن اللّه أعظم من ذلك، إنه لا يستشفع به على أحد من خلقه".
فأقره على قوله: نستشفع بك على اللّه، وأنكر عليه قوله: نستشفع باللّه عليك.
وقد اتفق المسلمون على أن نبينا شفيع يوم القيامة، وأن الخلق يطلبون منه الشفاعة، لكن عند أهل السنة أنه يشفع في أهل الكبائر، وأما عند الوعيدية فإنما يشفع في زيادة الثواب.
وقول القائل: إن من توسل إلى اللّه بنبي، فقال: أتوسل إليك برسولك، فقد استغاث برسوله حقيقة، في لغة العرب وجميع الأمم، قد كذب عليهم، فما يعرف هذا في لغة أحد من بنى آدم، بل الجميع يعلمون أن المستغاث مسؤول به مدعو، ويفرقون بين المسؤول والمسؤول به، سواء استغاث بالخالق
أو بالمخلوق، فإنه يجوز أن يستغاث بالمخلوق فيما يقدر على النصر فيه، والنبي صلى الله عليه وسلم أفضل مخلوق يستغاث به في مثل ذلك.
ولو قال قائل لمن يستغيث به: أسألك بفلان، أو بحق فلان، لم يقل أحد: إنه استغاث بما توسل به، بل إنما استغاث بمن دعا، وسأله؛ ولهذا قال المصنفون في شرح أسماء اللّه الحسنى: إن المغيث بمعنى المجيب، لكن الإغاثة أخص بالأفعال، والإجابة أخص بالأقوال.
والتوسل إلى اللّه بغير نبينا صلى الله عليه وسلم سواء سُمِّىَ أو لم يُسَمَّ لا نعلم أحدًا من السلف فعله، ولا روى فيه أثرًا، ولا نعلم فيه إلا ما أفتى به الشيخ من المنع، وأما التوسل بالنبي صلى الله عليه وسلم، ففيه حديث في السنن، رواه النسائي والترمذى وغيرهما: أن أعرابيًا أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول اللّه، إني أصبت في بصرى فادع اللّه لى، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: "توضأ وصلِّ ركعتين، ثم قل: اللّهم أسألك وأتوجه إليك بنبيك محمد، يا محمد، إني أتَشَفَّع بك في ردّ بَصَرى. اللّهم شَفِّع نبيك في"، وقال: "فإن كانت لك حاجة فمثل ذلك" فرد اللّه بصره. فلأجل هذا الحديث استثنى الشيخ التوسل به.
وللناس في معنى هذا قولان:
أحدهما: أن هذا التوسل هو الذي ذكر عمر بن الخطاب رضي اللّه عنه لما قاله: كنا إذا أجْدَبْنَا نتوسل بنبينا إليك فتسقينا، وإنا نتوسل إليك بعم نبينا فاسقنا، فقد ذكر عمر رضي الله عنه :أنهم كانوا يتوسلون به في حياته في الاستسقاء، ثم توسلوا بعمه العباس بعد موته، وتوسلهم
به استسقاؤهم به، بحيث يدعو ويدعون معه، فيكون هو وسيلتهم إلى اللّه، وهذا لم يفعله الصحابة بعد موته ولا في مغيبه، والنبي صلى الله عليه وسلم كان في مثل هذا شافعًا لهم، داعيا لهم؛ ولهذا قال في حديث الأعمى: اللّهم فشفعه في، فعلم أن النبي صلى الله عليه وسلم شفع له، فسأل اللّه أن يشفعه فيه.
والثاني: أن التوسل يكون في حياته، وبعد موته، وفي مغيبه وحضرته، ولم يقل أحد: إن من قال بالقول الأول فقد كفر، ولا وجه لتكفيره، فإن هذه مسألة خفية، ليست أدلتها جلية ظاهرة، والكفر إنما يكون بإنكار ما علم من الدين ضرورة، أو بإنكار الأحكام المتواترة والمجمع عليها، ونحو ذلك. واختلاف الناس فيما يشرع من الدعاء وما لا يشرع، كاختلافهم: هل تشرع الصلاة عليه عند الذبح؟ وليس هو من مسائل السب عند أحد من المسلمين.
وأما من قال: إن من نفي التوسل الذي سماه استغاثة بغيره كفر، وتكفير من قال بقول الشيخ عز الدين وأمثاله، فأظهر من أن يحتاج إلى جواب، بل المُكَفِّر بمثل هذه الأمور، يستحق من غليظ العقوبة والتعزير ما يستحقه أمثاله، من المفترين على الدين، لا سيما مع قول النبي صلى الله عليه وسلم: "من قال لأخيه: كافر فقد باء بها أحدهما".
وأما من قال: ما لا يقدر عليه إلا اللّه لا يستغاث فيه إلا به، فقد قال الحق، بل لو قال كما قال أبو يزيد: استغاثة المخلوق بالمخلوق كاستغاثة الغريق بالغريق، وكما قال الشيخ أبو عبد اللّه القرشى: استغاثة المخلوق بالمخلوق كاستغاثة المسجون بالمسجون لكان قد أحسن، فإن مطلق هذا الكلام يفهم الاستغاثة
المطلقة، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم لابن عباس: "إذا سألت فاسأل اللّّه، وإذا استعنت فاستعن باللّه".
وإذا نفي الرسول عن نفسه أمرًا كان هو الصادق المصدوق في ذلك، كما هو الصادق المصدوق في كل ما يخبر به، من نفي، وإثبات، وعلىنا أن نصدقه في كل ما أخبر به من نفي وإثبات، ومن رد خبره تعظيما له، أشبه النصارى، الذي ن كذبوا المسيح في إخباره عن نفسه بالعبودية، تعظيما له، ويجوز لنا أن ننفي ما نفاه، وليس لأحد أن يقابل نفيه بنقيض ذلك البتة، واللّه أعلم.
وسئل شيخ الإسلام تقى الدين بن تيمية رضي الله عنه:
ما تقول السادة العلماء أئمة الدين، وفقهم اللّه لطاعته، فيمن يقول: لا يستغاث برسول اللّه صلى الله عليه وسلم، هل يحرم عليه هذا القول، وهل هو كفر أم لا؟ وإن استدل بآيات من كتاب اللّه وأحاديث رسوله صلى الله عليه وسلم هل ينفعه دليله أم لا؟ وإذا قام الدليل من الكتاب والسنة فما يجب على من يخالف ذلك؟ أفتونا مأجورين.
فأجاب :
الحمد للّه، قد ثبت بالسنة المستفيضة، بل المتواترة، واتفاق الأمة: أن نبينا صلى الله عليه وسلم الشافع المشفع، وأنه يشفع في الخلائق يوم القيامة وأن الناس يستشفعون به، يطلبون منه أن يشفع لهم إلى ربهم وأنه يشفع لهم.
ثم اتفق أهل السنة والجماعة أنه يشفع في أهل الكبائر، وأنه لا يخلد في النار من أهل التوحيد أحد.
وأما الخوارج والمعتزلة فأنكروا شفاعته لأهل الكبائر، ولم ينكروا شفاعته للمؤمنين، وهؤلاء مبتدعة ضُلال، وفي تكفيرهم نزاع وتفصيل.
وأما من أنكر ما ثبت بالتواتر والإجماع فهو كافر بعد قيام الحجة، وسواء سمى هذا المعنى استغاثة أو لم يسمه ؟
وأما من أقر بشفاعته وأنكر ما كان الصحابة يفعلونه من التوسل به والاستشفاع به، كما رواه البخارى في صحيحه عن أنس أن عمر بن الخطاب كان إذا قحطوا استسقى بالعباس بن عبد المطلب، وقال: اللهم إنا كنا نتوسل إليك بنبينا فتسقينا، وإنا نتوسل إليك بعم نبينا فاسقنا فيسقون وفي سنن أبى داود وغيره أن أعرابيا قال للنبي صلى الله عليه وسلم: جهدت الأنفس، وجاع العيال، وهلك المال، فادع اللّه لنا، فإنا نستشفع بك على اللّه ونستشفع باللّه عليك. فسبح رسول اللّه صلى الله عليه وسلم حتى عرف ذلك في وجوه أصحابه وقال: "ويحك، إن اللّه لا يستشفع به على أحد من خلقه، شأن اللّه أعظم من ذلك"، وذكر تمام الحديث فأنكر قوله: نستشفع باللّه عليك، ولم ينكر قوله: نستشفع بك على اللّه، بل أقره عليه، فعلم جوازه. فمن أنكر هذا فهو ضال مخطئ مبتدع، وفي تكفيره نزاع وتفصيل.
وأما من أقر بما ثبت بالكتاب والسنة والإجماع من شفاعته والتوسل به ونحو ذلك ولكن قال: لا يدعى إلا اللّه وأن الأمور التي لا يقدر عليها إلا اللّه لا تطلب إلا منه، مثل غفران الذنوب، وهداية القلوب، وإنزال المطر، وإنبات النبات، ونحو ذلك فهذا مصيب في ذلك، بل هذا مما لا نزاع فيه بين المسلمين أيضًا. كما قال الله تعالى: {وَمَن يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ اللّهُ} [آل عمران: 135]، وقال: {إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَن يَشَاء} [القصص: 56]، وكما قال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عليكم هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ يَرْزُقُكُم مِّنَ السَّمَاء وَالْأَرْضِ} [فاطر:3]،
وكما قال تعالى: {وَمَا جَعَلَهُ اللّهُ إِلاَّ بُشْرَى لَكُمْ وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُم بِهِ وَمَا النَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِندِ اللّهِ} [آل عمران:126]، وقال: {إِلاَّ تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الذي نَ كَفَرُواْ ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لاَ تَحْزَنْ إِنَّ اللّهَ مَعَنَا} [التوبة: 40].
فالمعاني الثابتة بالكتاب والسنة يجب إثباتها، والمعاني المنفية بالكتاب والسنة يجب نفيها، والعبارة الدالة على المعاني نفيًا وإثباتًا إن وجدت في كلام الله ورسوله، وجب إقرارها، وإن وجدت في كلام أحد وظهر مراده من ذلك رتب عليه حكمه، وإلا رجع فيه إليه.
وقد يكون في كلام اللّه ورسوله عبارة لها معنى صحيح، لكن بعض الناس يفهم من تلك غير مراد اللّه ورسوله، فهذا يرد عليه فهمه. كما روى الطبرإني في معجمه الكبير: أنه كان في زمن النبي صلى الله عليه وسلم منافق يؤذى المؤمنين، فقال أبو بكر الصديق: قوموا بنا لنستغيث برسول اللّه صلى الله عليه وسلم من هذا المنافق، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "إنه لا يستغاث بى، وإنما يستغاث باللّه"، فهذا إنما أراد به النبي صلى الله عليه وسلم المعنى الثاني، وهو أن يطلب منه ما لا يقدر عليه إلا اللّه، وإلا فالصحابة كانوا يطلبون منه الدعاء ويستسقون به، كما في صحيح البخارى، عن ابن عمر قال: ربما ذكرت قول الشاعر وأنا أنظر إلى وجه النبي صلى الله عليه وسلم يستسقى، فما ينزل حتى يجيش له كل ميزاب:
وأبيض يستسقى الغمام بوجهه ثمال اليتامى عصمة للأرامل !
وهو قول أبى طالب؛ ولهذا قال العلماء المصنفون في أسماء اللّه تعالى: يجب على كل مكلف أن يعلم أن لا غياث ولا مغيث على الإطلاق إلا اللّه، وأن كل
غوث فمن عنده، وإن كان جعل ذلك على يدى غيره فالحقيقة له سبحانه وتعالى ولغيره مجاز.
قالوا: من أسمائه تعالى المغيث والغياث، وجاء ذكر المغيث في حديث أبى هريرة، قالوا: واجتمعت الأمة على ذلك.
وقال أبو عبد اللّه الحليمى: الغياث هو المغيث، وأكثر ما يقال: غياث المستغيثين، ومعناه المدرك: عباده فى الشدائد إذا دعوه، ومجيبهم ومخلصهم، وفى خبر الاستسقاء فى الصحيحين: "اللهم أغثنا، اللّهم أغثنا". يقال: أغاثه إغاثة وغياثًا وغوثًا، وهذا الاسم فى معنى المجيب والمستجيب، قال تعالى: {إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ} [الأنفال: 9]، إلا أن الإغاثة أحق بالأفعال، والاستجابة أحق بالأقوال، وقد يقع كل منهما موقع الآخر.
قالوا :الفرق بين المستغيث والداعى: أن المستغيث ينادى بالغوث، والداعى ينادى بالمدعو والمغيث. وهذا فيه نظر، فإن من صيغة الاستغاثة ياللّه للمسلمين، وقد روى عن معروف الكرخى أنه كان يكثر أن يقول: واغوثاه، ويقول: إنى سمعت اللّه يقول :{إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ}، وفى الدعاء المأثور: "يا حي يا قيوم، لا إله إلا أنت برحمتك أستغيث، أصلح لى شأنى كله، ولا تكلنى إلى نفسى طرفة عين، ولا إلى أحد من خلقك".
والاستغاثة برحمته استغاثة به فى الحقيقة، كما أن الاستعاذة بصفاته استعاذة به فى الحقيقة، وكما أن القسم بصفاته قسم به فى الحقيقة، ففى الحديث: "أعوذ بكلمات اللّه التامة من شر ما خلق"، وفيه "أعوذ برضاك من سخطك، وبمعافاتك من عقوبتك، وبك منك، لا أحصى ثناء عليك، أنت كما أثنيت على نفسك".
ولهذا استدل الأئمة فيما استدلوا على أن كلام اللّه غير مخلوق بقوله: "أعوذ بكلمات اللّه التامة" قالوا: والاستعاذة لا تصلح بالمخلوق.
وكذلك القَسَم، قد ثبت فى الصحيحين أن النبى صلى الله عليه وسلم قال: "من كان حالفا فليحلف باللّه أو ليصمت"، وفى لفظ: "من حلف بغير اللّه فقد أشرك" رواه الترمذي وصححه. ثم قد ثبت فى الصحيح: الحلف ب "عزة اللّه"، و "لعمر اللّه"، ونحو ذلك مما اتفق المسلمون على أنه ليس من الحلف بغير اللّه الذى نهى عنه، والاستغاثة بمعنى أن يطلب من الرسول ما هو اللائق بمنصبه لا ينازع فيها مسلم، ومن نازع فى هذا المعنى فهو إما كافر إن أنكر ما يكفر به، وإما مخطئ ضال.
وأما بالمعنى الذى نفاه رسول اللّه صلى الله عليه وسلم: فهو أيضاً مما يجب نفيها، ومن أثبت لغير اللّه ما لا يكون إلا للّه فهو أيضاً كافر إذا قامت عليه الحجة التى يكفر تاركها.
ومن هذا الباب قول أبى يزيد البسطامى: استغاثة المخلوق بالمخلوق كاستغاثة الغريق بالغريق، وقول الشيخ أبى عبد اللّه القرشى المشهور بالديار المصرية: استغاثة المخلوق بالمخلوق كاستغاثة المسجون بالمسجون.
وفى دعاء موسى عليه السلام : "اللهم لك الحمد، وإليك المشتكى، وأنت المستعان وبك المستغاث، وعليك التكلان، ولا حول ولا قوة إلا بك"، ولما كان هذا المعنى هو المفهوم منها عند الإطلاق وكان مختصاً باللّه صح إطلاق نفيه عما سواه؛ ولهذا لا يعرف عن أحد من أئمة المسلمين أنه جوَّز مطلق الاستغاثة بغير اللّه، ولا أنكرعلى من نفى مطلق الاستغاثة عن غير اللّه.
وكذلك الاستغاثة أيضا،فيها ما لا يصلح إلا لله، وهى المشار إليها بقوله: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة :5] فإنه لا يعين على العبادة الإعانة المطلقة إلا اللّه. وقد يستعان بالمخلوق فيما يقدر عليه، وكذلك الاستنصار، قال اللّه تعالى: {وَإِنِ اسْتَنصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ} [الأنفال: 72]، والنصر المطلق هو خلق ما به يغلب العدو ولا يقدر عليه إلا اللّه.
ومن خالف ما ثبت فى الكتاب والسنة، فإنه يكون إما كافراً، وإما فاسقاً، وإما عاصيا، إلا أن يكون مؤمنا مجتهداً مخطئًا فيثاب على اجتهاده، ويغفر له خطؤه، وكذلك إن كان لم يبلغه العلم الذى تقوم عليه به الحجة، فإن اللّه يقول: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً}[الإسراء:15]. وأما إذا قامت عليه الحجة الثابتة بالكتاب والسنة فخالفها: فإنه يعاقب بحسب ذلك، إما بالقتل، وإما بدونه. واللّه أعلم.
وقال شيخ الإسلام :
فصل
سَمَّى اللّه آلهتهم التى عبدوها من دونه شفعاء، كما سماها شركاء فى غير موضع، فقال فى يونس: {وَيَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللّهِ مَا لاَ يَضُرُّهُمْ وَلاَ يَنفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلاء شُفَعَاؤُنَا عِندَ اللّهِ قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللّهَ بِمَا لاَ يَعْلَمُ فِي السَّمَاوَاتِ وَلاَ فِي الأَرْضِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} [الآية 18]، وقال: {أَمِ اتَّخَذُوا مِن دُونِ اللَّهِ شُفَعَاء قُلْ أَوَلَوْ كَانُوا لَا يَمْلِكُونَ شَيْئًا وَلَا يَعْقِلُونَ قُل لِّلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعًا} [الزمر :43، 44]، {وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُبْلِسُ الْمُجْرِمُونَ وَلَمْ يَكُن لَّهُم مِّن شُرَكَائِهِمْ شُفَعَاء} [الروم: 12، 13].
وجمع بين الشرك والشفاعة فى قوله: {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُم مِّن دُونِ اللَّهِ لَا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِن شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُم مِّن ظَهِيرٍ وَلَا تَنفَعُ الشَّفَاعَةُ عِندَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ} [سبأ: 22، 23]. فهذه الأربعة هى التى يمكن أن يكون لهم بها تعلق، الأول: ملك شىء ولو قل، الثانى: شركهم فى شىء من الملك. فلا ملك ولا شركة ولا معاونة يصير بها نداً. فإذا انتفت الثلاثة بقيت الشفاعة فعلقها بالمشيئة.
وقال: {وَكَم مِّن مَّلَكٍ فِي السَّمَاوَاتِ لَا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا} [النجم: 62]، وقال: {قُلِ ادْعُواْ الَّذِينَ زَعَمْتُم مِّن دُونِهِ فَلاَ يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنكُمْ وَلاَ تَحْوِيلاً} الآيتين [الإسراء:56]، وقال فى اتخاذهم قربانا: {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} [الزمر:3]، وقال: {فَلَوْلَا نَصَرَهُمُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِن دُونِ اللَّهِ قُرْبَانًا آلِهَةً بَلْ ضَلُّوا عَنْهُمْ وَذَلِكَ إِفْكُهُمْ وَمَا كَانُوا يَفْتَرُونَ} [الأحقاف:28]