فصل قد تكلم طائفة من المتكلمة والمتفلسفة والمتصوفة في قيام الممكنات بالواجب القديم
وقال شيخ الإسلام أحمد بن تيمية - قدس اللّه روحه:
فصل قد تكلم طائفة من المتكلمة، والمتفلسفة، والمتصوفة في قيام الممكنات والمحدثات، بالواجب القديم،
وهذا المعنى حق، فإن اللّه رب كل شيء، ومليكه، لكن يستشهدون على ذلك بقوله: {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ} [القصص: 88] ويقولون: إن معنى الآية: أن كل ممكن هو باعتبار ذاته هالك، أو هو عدم محض، ونفى صرف، وإنما له الوجود من جهة ربه، فهو هالك باعتبار ذاته، موجود بوجه ربه، أي من جهته هو موجود.
ثم منهم من قد يخرج منها إلى مذهب الجهمية: الاتحادية، والحلولية، فيقول: إن ذلك الوجه هو وجود الكائنات، ووجه اللّه هو وجوده، فيكون وجوده وجود الكائنات، لا يميز بين الوجود الواجب، والوجود الممكن - كما هو قول ابن عربي، وابن سَبْعِين ونحوهما - وهو لازم لمن جعل وجوده وجودًا مطلقًا، لا يتميز بحقيقة تخصه سواء جعله وجودًا مطلقا بشرط الإطلاق - كما يزعم ابن سينا ونحوه من المتفلسفة - أو جعله وجودًا مطلقا لا بشرط- كما يقوله الاتحادية.
وهم يسلمون من القواعد العقلية - مما هو يعلم بضرورة العقل ما يوجب أن يكون الموجود - بشرط الإطلاق - إنما وجوده في الأذهان لا في الأعيان كال.. المطلق بشرط الإطلاق، والإنسان المطلق بشرط الإطلاق ونحو ذلك. وأن المطلق لا بشرط، ليس له حقيقة، غير الوجود العيني، والذهني، ليس في الأعيان الموجودة وجود مطلق، سوى أعيانها، كما ليس في هذا الإنسان، وهذا الإنسان إنسان مطلق وراء هذا الإنسان، فيكون وجود الرب على الأول ذهني وعلى الثاني نفس وجود المخلوقات.
وقول الجهمية من المتقدمين، والمتأخرين، لا يخرج عن هذين القولين، وهو حقيقة التعطيل، لكن هم يثبتونه أيضا، فيجمعون بين النفي والإثبات، فيبقون في الحيرة؛ ولهذا يجعلون الحيرة منتهى المعرفة، ويروون عن النبي صلى الله عليه وسلم حديثا مكذوبا عليه "أعلَمكم باللّه أشدكم حيرة" وأنه قال: "اللّهم زدني فيك تحيرًا" ويجمعون بين النقيضين ملتزمين لذلك.
وهذا قول القرامطة الباطنية، والاتحادية، وهو لازم لقول الفلاسفة والمعتزلة، وإن لم يصرح هؤلاء بالتزامه؛ بخلاف الباطنية، والاتحادية من المتصوفة. فإنهم يصرحون بالتزامه، ويذكرون ذلك عن الحلاج.
والمقصود هنا أن يقال: أما كون وجود الخالق هو وجود المخلوق؛ فهذا كفر صريح باتفاق أهل الإيمان، وهو من أبطل الباطل في بديهة عقل كل إنسان، وإن كان منتحلوه يزعمون أنه غاية التحقيق والعرفان، وهذا مبسوط في غير هذا الموضع.
وأما كون المخلوق لا وجود له، إلا من الخالق سبحانه فهذا حق ثم جميع الكائنات، هو خالقها، وربها، ومليكها، لا يكون شيء إلا بقدرته، ومشيئته وخلقه، هو خالق كل شيء سبحانه وتعالى.
لكن الكلام هنا في تفسير الآية بهذا، فإن المعاني تنقسم إلى حق وباطل.
فالباطل: لا يجوز أن يفسر به كلام الله.
والحق: إن كان هو الذي دل عليه القرآن فسر به، وإلا فليس كل معنى صحيح يفسر به اللفظ لمجرد مناسبة، كالمناسبة التي بين الرؤيا والتعبير، وإن كانت خارجة عن وجوه دلالة اللفظ، كما تفعله القرامطة والباطنية؛ إذ دلالة اللفظ على المعنى سمعية. فلابد أن يكون اللفظ مستعملا في ذلك المعنى بحيث قد دل على المعنى به، لا يكتفي في ذلك بمجرد أن يصلح وضع اللفظ لذلك المعنى؛ إذ الألفاظ التي يصلح وضعها للمعاني ولم توضع لها لا يحصي عددها إلا الله. وهذا عند من يعتبر المناسبة بين اللفظ والمعنى كقول طائفة من أهل الكلام والبيان، وأما عند من لا يعتبر المناسبة فكل لفظ يصلح وضعه لكل معنى، لاسيما إذا علم أن اللفظ موضوع لمعنى هو مستعمل فيه، فحمله على غير ذلك لمجرد المناسبة كذب على الله.
ثم إن كان مخالفًا لما علم من الشريعة، فهو دأب القرامطة، وإن لم يكن مخالفًا فهو حال كثير من جهال الوعاظ، والمتصوفة الذين يقولون بإشارات لا يدل اللفظ
عليها نصا ولا قياسا، وأما أرباب الإشارات الذين يثبتون ما دل اللفظ عليه، ويجعلون المعنى المشار إليه مفهوما من جهة القياس والاعتبار فحالهم كحال الفقهاء العالمين بالقياس، والاعتبار، وهذا حق إذا كان قياسا صحيحا لا فاسدا، واعتبارًا مستقيمًا، لا منحرفًا.
وإذا كان المقصود هنا الكلام في تفسير الآية فنقول: تفسير الآية بما هو مأثور ومنقول عمن قاله من السلف، والمفسرين، من أن المعنى: كل شيء هالك إلا ما أريد به وجهه. هو أحسن من ذلك التفسير المحدث، بل لا يجوز تفسير الآية بذلك التفسير المحدث، وهذا يبين بوجوه، بعضها يشير إلى الرجحان، وبعضها يشير إلى البطلان.
الأول: أنه لم يقل: كل شيء هالك إلا من جهته، إلا من وجهه، ولكن قال: إلا وجهه. وهذا يقتضي أن ثم أشياء تهلك إلا وجهه. فإن أريد بوجهه وجوده، اقتضى أن كل ما سوي وجوده هالك، فيقتضي أن تكون المخلوقات هالكة. وليس الأمر كذلك. وهو أيضا على قول الاتحادية. فإنه عندهم ما ثم إلا وجود واحد، فلا يصح أن قال: كل ما سوي وجوده هالك؛ إذ ما ثم شيء يخبر عنه بأنه سوى وجوده، إذ أصل مذهبهم نفي السوى، والغير في نفس الأمر.
وهذا يتم بالوجه الثاني: وهو أنه إذا قيل: المراد بالهالك: الممكن الذي لا وجود له من جهته، فيكون المعنى: كل شيء ليس وجوده من نفسه إلا هو.
قيل: استعمال لفظ الهالك في الشيء الموجود المخلوق لأجل أن وجوده من ربه لا من نفسه، لا يعرف في اللغة لا حقيقة ولا مجازا.
والقرآن قد فرق في اسم الهلاك بين شيء وشيء. فقال تعالى: {إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ} [النساء: 176] وقال تعالى: {وَلاَ تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} [البقرة: 195] وقال تعالى: {وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ وَإِن يُهْلِكُونَ إِلاَّ أَنفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ} [الأنعام: 26]، وقال تعالى: {وَقَالُوا مَا هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ} [الجاثية: 24]، وقال تعالى: {وَكَم مِّن قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا فَجَاءهَا بَأْسُنَا بَيَاتًا أَوْ هُمْ قَآئِلُونَ} [الأعراف: 4]، وقال تعالى: {وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُم مِّن قَرْنٍ}[مريم: 74]، وقال: {وَإِن مَّن قَرْيَةٍ إِلاَّ نَحْنُ مُهْلِكُوهَا قَبْلَ يَوْمِ الْقِيَامَةِ} [الإسراء: 58]، وقال: {وَكَانَ فِي الْمَدِينَةِ تِسْعَةُ رَهْطٍ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَلَا يُصْلِحُونَ قَالُوا تَقَاسَمُوا بِاللَّهِ لَنُبَيِّتَنَّهُ وَأَهْلَهُ ثُمَّ لَنَقُولَنَّ لِوَلِيِّهِ مَا شَهِدْنَا مَهْلِكَ أَهْلِهِ} [النمل: 48، 49]، وقال: {وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنَ الْقُرُونِ مِن بَعْدِ نُوحٍ} [الإسراء: 17] وقالت الملائكة: {إِنَّا مُهْلِكُو أَهْلِ هَذِهِ الْقَرْيَةِ} [العنكبوت: 31] وقال: {أَلَمْ نُهْلِكِ الْأَوَّلِينَ. ثُمَّ نُتْبِعُهُمُ الْآخِرِينَ} [المرسلات: 16، 17].
فهذه الآيات تقتضي أن الهلاك استحالة، وفساد في الشيء الموجود، كما سنبينه، لا أنه يعني أنه ليس وجوده من نفسه؛ إذ جميع المخلوقات تشترك في هذا.
الوجه الثالث: أن يقال: على هذا التقدير: يكون المعنى: أن كل ما سواه ممكن قابل للعدم، ليس وجوده من نفسه، وهذا المعنى ليس هو الذي يقصدونه، وإنما مقصودهم أن كل ما سواه فوجوده منه، وبين المعنيين فرق واضح، فإن الخبر عن الشيء بأنه ممكن قابل العدم، ليس وجوده من نفسه غير الخبر عنه، بأنه موجود وإن وجوده من الله.
الوجه الرابع: أن يقال: إذا كان المراد أن كل ما سواه ممكن، والضمير عائد إلى واجب الوجود إلى الله الذي خلق الكائنات كان هذا من باب إيضاح الواضح، فإنه من المعلوم أن كل ما سوى واجب الوجود فهو ممكن، وأن كل ما هو مخلوق له فهو ممكن.
الوجه الخامس: أن يقال: اسم الوجه في الكتاب والسنة، إنما يذكر في سياق العبادة له والعمل له، والتوجه إليه، فهو مذكور في تقرير ألوهيته، وعبادته وطاعته، لا في تقرير وحدانية كونه خالقًا وربًا، وذلك المعنى هو العلة الغائية، وهذا هو العلة الفاعلية، والعلة الغائية، هي المقصودة التي هي أعلى وأشرف بل هي علة فاعلية للعلة الفاعلية، ولهذا قدمت في مثل قوله: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة: 5] وفي مثل قوله: {فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عليه} [هود: 123]، وقال تعالى: {وَمَا لِأَحَدٍ عِندَهُ مِن نِّعْمَةٍ تُجْزَى إِلَّا ابْتِغَاء وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلَى وَلَسَوْفَ يَرضي}
[الليل: 19: 21]، وقال تعالى: {وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنكُمْ جَزَاء وَلَا شُكُورًا} [الإنسان: 8، 9]، وقال تعالى: {وَلاَ تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ}[الأنعام: 52].
وإذا كان كذلك، كان حمل اسم الوجه في هذه الآية على ما يدل عليه في سائر الآيات أولى من حمله على ما يدل عليه لفظ الوجه في شيء من الكتاب والسنة، بل هذا هو الواجب دون ذاك؛ لأن هذا استعمال للفظ فيما لم يرد به الكتاب، والكتاب قد ورد بغيره حيث ذكر.
الوجه السادس: أن اسم الهلاك يراد به الفساد، وخروجه عما يقصد به
ويراد، وهذا مناسب لما لا يكون لله، فإنه فاسد لا ينتفع به في الحقيقة، بل هو خارج عما يجب قصده وإرادته. قال تعالى: {وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ وَإِن يُهْلِكُونَ إِلاَّ أَنفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ} [الأنعام: 26] أخبر أنهم يهلكون أنفسهم بنهيهم عن الرسول، وننأيهم عنه، معلوم أن من نأى عن اتباع الرسول، ونهي غيره عنه وهو الكافر فإن هلاكه بكفره هو حصول العذاب المكروه له، دون النعيم المقصود. وقال تعالى: {إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ} [النساء: 167]. وقال:
وقال قدس الله روحه:
فصل:
ثم يقال: هذا أيضًا يقتضي أن كلا منهما ليس واجبًا بنفسه غنيًا قيومًا، بل مفتقرًا إلى غيره في ذاته وصفاته، كما كان مفتقرًا إليه في مفعولاته؛ وذلك أنه إذا كان كل منهما مفتقرًا إلى الآخر في مفعولاته، عاجزًا عن الانفراد بها؛ إذ الاشتراك مستلزم لذلك، كما تقدم، فإما أن يكون قابلًا للقدرة على الاستقلال بحيث يمكن ذلك فيه، أولا يمكن.
والثاني: ممتنع؛ لأنه لو امتنع أن يكون الشيء مقدورًا ممكنًا لواحد، لامتنع أن يكون مقدورًا ممكنا لاثنين، فإنَّ حال الشيء في كونه مقدورًا ممكنًا، لا يختلف بتعدد القادر عليه وتوحده. فإذا امتنع أن يكون مفعولا مقدورًا لواحد، امتنع أن يكون مفعولا مقدورًا لاثنين. وإذا جاز أن يكون مفعولًا مقدورًا عليه لاثنين وهو ممكن، جاز أن يكون أيضا لواحد، وهذا بيِّن إذا كان الإمكان والامتناع لمعنى في الممكن المفعول المقدور عليه إذ صفات ذاته، لا تختلف في الحال.
وكذلك إذا كان لمعنى في القادر، فإن القدرة القائمة باثنين، لا تمتنع
أن تقوم بواحد، بل إمكان ذلك معلوم ببديهة العقل، بل من المعلوم ببديهة العقل أن الصفات بأسرها من القدرة وغيرها، كلما كان محلها متحدًا مجتمعًا، كان أكمل لها من أن يكون متعددًا متفرقا.
ولهذا كان الاجتماع والاشتراك في الخلق، بأن يوجب لها من القوة والقدرة مالا يحصل لها إذا تفرقت وانفردت، وإن كانت إحداها باقية، بل الأشخاص والأعضاء وغيرها من الأجسام المتفرقة قد قام بكل منها قدرة، فإذا قدر اتحادها واجتماعها، كانت تلك القدرة أقوى وأكمل؛ لأنه حصل لها من الاتحاد والاجتماع بحسب الإمكان ما لم يكن حين الافتراق والتعداد.
وهذا يبين أن القدرة القائمة باثنين إذا قدر أن ذينك الاثنين كانا شيئًا واحدًا تكون القدرة أكمل، فكيف لا تكون مساوية للقدرة القائمة بمحلين؟ وإذا كان من المعلوم أن المحلَّين المتباينين اللذين قام بهما قدرتان، إذا قدر أنهما محل واحد، وأن القدرتين قامتا به لم تنقص القدرة بذلك بل تزيد، علم أن المفعول الممكن المقدور عليه لقادرين منفصلين إذا قدر أنهما بعينهما قادر واحد قد قام به ما قام بهما، لم ينقص بذلك بل يزيد، فعلم أنه يمكن أن يكون كل منهما قابلا للقدرة على الاستقلال، وأن ذلك ممكن فيه.
فتبين أنه من الممكن في المشتركين على المفعول الواحد أن يكون كل منهما قادرًا عليه، بل من الممكن أن يكونا شيئًا واحدًا قادرًا عليه، فتبين أن كلا منهما يمكن أن يكون أكمل مما هو عليه، وأن يكون بصفة أخرى.
إذا كان يمكن في كل منهما أن تتغير ذاته، وصفاته.
ومعلوم أنه هو لا يمكن أن يكمل نفسه وحده، ويغيرها إذ التقدير: أنه عاجز عن الانفراد بمفعول منفصل عنه، فأن يكون عاجزًا عن تكميل نفسه وتغييرها أولى.
وإذا كان هذا يمكن أن يتغير ويكمل، وهو لا يمكنه ذلك بنفسه لم يكن واجب الوجود بنفسه، بل يكون فيه إمكان وافتقار إلى غيره، والتقدير: أنه واجب الوجود بنفسه غير واجب الوجود بنفسه فيكون واجبا ممكنا.
وهذا تناقض؛ إذ ما كان واجب الوجود بنفسه تكون نفسه كافية في حقيقة ذاته وصفاته، لا يكون في شيء من ذاته وصفاته مفتقرًا إلى غيره؛ إذ ذلك كله داخل في مسمى ذاته، بل ويجب ألا يكون مفتقرًا إلى غيره في شيء من أفعاله ومفعولاته.
فإن أفعاله القائمة به داخلة في مسمى نفسه، وافتقاره إلى غيره في بعض المفعولات يوجب افتقاره في فعله، وصفته القائمة به؛ إذ مفعوله صدر عن ذلك، فلو كانت ذاته كاملة غنية لم تفتقر إلى غيره في فعلها، فافتقاره إلى غيره بوجه من الوجوه دليل عدم غناه، وعلى حاجته إلى الغير، وذلك هو الإمكان المناقض لكونه واجب الوجود بنفسه.
ولهذا لما كان وجوب الوجود من خصائص رب العالمين، والغني عن الغير من خصائص رب العالمين كان الاستقلال بالفعل من خصائص
رب العالمين، وكان التنزه عن شريك في الفعل والمفعول من خصائص رب العالمين، فليس في المخلوقات ما هو مستقل بشيء من المفعولات، وليس فيها ما هو وحده علة قائمة، وليس فيها ما هو مستغنيًا عن الشريك في شيء من المفعولات، بل لا يكون في العالم شيء موجود عن بعض الأسباب، إلا بمشاركة سبب آخر له.
فيكون وإن سمى علة علة مقتضية سببية، لا علة تامة، ويكون كل منهما شرطا للآخر، كما أنه ليس في العالم سبب إلا وله مانع يمنعه من الفعل، فكل ما في المخلوق مما يسمى علة أو سببا، أو قادرًا، أو فاعلا، أو مدبرًا فله شريك هو له كالشرط وله معارض هو له مانع وضد، وقد قال سبحانه: {وَمِن كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ} [الذاريات: 49] والزوج يراد به النظير المماثل، والضد المخالف، وهو الند.
فما من مخلوق إلا له شريك، وند.
والرب سبحانه وحده هو الذي لا شريك له، ولا ند، بل ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن.
ولهذا لا يستحق غيره أن يسمى خالقا، ولا ربا مطلقًا، ونحو ذلك؛ لأن ذلك يقتضي الاستقلال، والانفراد بالمفعول المصنوع، وليس ذلك إلا لله وحده؛ ولهذا وإن نازع بعض الناس في كون العلة تكون ذات أوصاف، وادعى أن العلة لا تكون إلا ذات وصف واحد فإن أكثر الناس خالفوا في ذلك، وقالوا: يجوز أن تكون ذات أوصاف، بل قيل: لا تكون في المخلوق
علة ذات وصف واحد أو ليس في المخلوق ما يكون وحده علة، ولا يكون في المخلوق علة، إلا ما كان مركبًا من أمرين فصاعدًا.
فليس في المخلوق واحد يصدر عنه شيء، فضلا عن أن يقال: الواحد لا يصدر عنه إلا واحد، بل لا يصدر من المخلوق شيء إلا عن اثنين فصاعدًا، وأما الواحد الذي يفعل وحده فليس إلا الله.
فكما أن الوحدانية واجبة له لازمة له فالمشاركة واجبة للمخلوق لازمة له، والوحدانية مستلزمة للكمال، والكمال مستلزم لها، والاشتراك مستلزم للنقصان، والنقصان مستلزم له.
وكذلك الوحدانية مستلزمة للغنى عن الغير، والقيام بنفسه، ووجوبه بنفسه، وهذه الأمور من الغنى، والوجوب بالنفس والقيام بالنفس مستلزمة للوحدانية، والمشاركة مستلزمة للفقر إلى الغير، والإمكان بالنفس، وعدم القيام بالنفس.
وكذلك الفقر والإمكان وعدم القيام بالنفس مستلزم للاشتراك، وهذه وأمثالها من دلائل توحيد الربوبية وأعلامها، وهي من دلائل إمكان المخلوقات المشهودات، وفقرها وأنها من بدئه، فهى من أدلة إثبات الصانع؛ لأن ما فيها من الافتراق والتعداد، والاشتراك يوجب افتقارها وإمكانها، والممكن المفتقر لابد له من واجب غني بنفسه، وإلا لم يوجد.
ولو فرض تسلسل الممكنات المفتقرات فهي بمجموعها ممكنة، والممكن قد علم
بالاضطرار أنه يفتقر في وجوده إلى غيره، فكل ما يعلم أنه ممكن فقير، فإنه يعلم أنه فقير أيضا في وجوده إلى غيره، فلابد من غني بنفسه واجب الوجود بنفسه، وإلا لم يوجد ما هو فقير ممكن بحال.
وهذه المعاني تدل على توحيد الربوبية، وعلى توحيد الإلهية، وهو التوحيد الواجب الكامل، الذي جاء به القرآن، لوجوه:
قد ذكرنا منها ما ذكرنا في غير هذا الموضع، مثل أن المتحركات لابد لها من حركة إرادية، ولابد للإرادة من مراد لنفسه، وذلك هو الإله، والمخلوق يمتنع أن يكون مرادًا لنفسه، كما يمتنع أن يكون فاعلا لنفسه، فإذا امتنع أن يكون فاعلان بأنفسهما امتنع أن يكون مرادان بأنفسهما.
وأيضًا، فالإله الذي هو المراد لنفسه إن لم يكن ربا امتنع أن يكون معبودًا لنفسه، ومن لا يكون ربا خالقا لا يكون مدعوا مطلوبا منه، مرادًا لغيره، فلأن لا يكون معبودًا مرادًا لنفسه من باب الأولى فإثبات الإلهية يوجب إثبات الربوبية، ونفي الربوبية يوجب نفي الإلهية؛ إذ الإلهية هي الغاية، وهي مستلزمة للبداية كاستلزام العلة الغائية للفاعلىة.
وكل واحد من وحدانية الربوبية والإلهية وإن كان معلوما بالفطرة الضرورية البديهية، وبالشرعية النبوية الإلهية فهو أيضا معلوم بالأمثال الضرورية، التي هي المقاييس العقلية.
لكن المتكلمون إنما انتصبوا لإقامة المقاييس العقلية على توحيد الربوبية،
وهذا مما لم ينازع في أصله أحد من بني آدم، وإنما نازعوا في بعض تفاصيله، كنزاع المجوس والثنوية والطبيعية والقدرية، وأمثالهم من ضلال المتفلسفة، والمعتزلة، ومن يدخل فيهم، وأما توحيد الإلهية فهو الشرك العام الغالب، الذي دخل من أقرَّ أنه لا خالق إلا الله، ولا رب غيره من أصناف المشركين، كما قال تعالى: {وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللّهِ إِلاَّ وَهُم مُّشْرِكُونَ} [يوسف: 106]، كما قد بسطنا هذا في غير هذا الموضع.
(مجموع الفتاوي بن تيميه)