سئل عن رجلين تشاجرا في معنى الرب حق والعبد حق
المسؤول من إحسان شيخ الإسلام مفتى الأنام تقي الدين أثابه الله الجنة:
أن يفتينا في رجلين تشاجرا في هذين البيتين المذكورين، وهما قول القائل:
الرب حق والعبد حق ياليت شعري من المكلف
إن قلت عبد فذاك ميت أو قلت رب إني يكلف
فقال أحد الرجلين: هذا القول كفر، فإن القائل جعل الرب والعبد حقًا واحدًا ليس بينهما فرق، وأبطل التكليف. فقال له الرجل الثاني: ما فهمت المعني، ورميت القائل بما لم يعتقده ويقصده، فإن القائل قال: الرب حق، والعبد حق، أي الرب حق في ربوبيته، والعبد حق في عبوديته، فلا الرب عبدًا، ولا العبد ربًا كما زعمت.
ثم قال:
ياليت شعري من المكلف مع علمه أن التكليف حق
فحار لمن ينسبه في القيام به، فقال: إن قلت: عبد فذاك ميت، والميت: ليس له من نفسه حركة، بل من غيره يقلبه كما يشاء، وكذلك العبد وإن كان
حيًا فإنه مع ربه كالميت مع الغاسل ليس له من نفسه فعل بغير الله؛ لأنه سبحانه لو لم يقوِّ العبد على القيام بالتكليف، لما قدر على ذلك. فالفعل لله حقيقة، وللعبد مجازا، ودليل ذلك قول: لا حول ولا قوة إلا بالله العلى العظيم، أي لا حول عن المعصية، ولا قوة على الطاعة إلا بالله.
وقد علم أن الرب ليس عليه تكليف؛ لأنه لا مكلف له، والعبد ليس يقوم بما كلف به إلا بالله، والتكليف حق .
فتعجب القائل عند شهوده لهذه الحال ! وحار في ذلك مع الإقرار به، وأنه على العبد حق، فما ينبغي لعاقل أن يقع فيمن لا يفهم كلامه، بل التقصير من الفهم القصير، فمع أيهما الحق؟
فأجاب شيخ الإسلام ابن تيمية قدس الله روحه ونور ضريحه فقال:
الحمد لله، كلام هذا الثاني كلام باطل، وخوض فيما لم يحط بعلمه، ولم يعرف حقيقته، ولا هو عارف بحقيقة قول ابن عربي وأصله، الذي تفرع منه هذا الشعر وغيره، ولا هو أخذ بمقتضى هذا اللفظ ومدلوله.
فأما أصل ابن عربي فهو أن الوجود واحد. وأن الوجود الواجب هو عين الوجود الممكن، والقول بأن المعدوم شيء وأعيان المعدومات ثابتة في العدم، ووجود الحق فاض عليها، فوجود كل شيء عين وجود الحق عنده، وهذا مبسوط في غير هذا الموضع. ولهذا قال: ولما كان فرعون في منصب التحكم صاحب الوقت، وأنه الخليفة بالسيف، وإن جار في العرف الناموسي لذلك قال{أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى} [النازعات: 24] أي: وإن كان الكل أربابًا بنسبة ما، فأنا الأعلى منهم، بما أعطيته في الظاهر من الحكم فيكم، ولما علمت السحرة صدقه فيما قال لم ينكروه، وأقروا له بذلك. فقالوا له: {فَاقْضِ مَا أَنتَ قَاضٍ إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا}[طه: 72]، والدولة لك، فصح قول فرعون: {أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى}. وإن كان عين الحق .
قال: ومن أسمائه الحسنى العلى؛ على من: وما ثم إلا هو؟ وعن ماذا؛ وما هو إلا هو؟ إلى قوله: ومن عرف ما قررناه في الأعداد، وأن نفيها عين إثباتها، علم أن الحق المنزه هو الخلق المشبه، فالآمر الخالق المخلوق، والأمر المخلوق هو الخالق، كل ذلك من عين واحدة، لا بل هو العين الواحدة.
وقال: ألا ترى أن الحق يظهر بصفات الخلق؟فكل صفات الحق حق له، كما أن صفات المحدثات حق للخالق ونحو ذلك، مما يكثر في كلامه، وهذا الرجل له ترتيب في سلوكه، من جنس ترتيب الملاحدة، القرامطة. فأول ما يظهر اعتقاد معتزلة الكلابية، الذين ينفون الصفات الخبرية، ويثبتون الصفات السبعة أو الثمانية، ثم بعد ذلك اعتقاد الفلاسفة، الذين ينفون الصفات ويثبتون وجودًا واجبا مجردًا، صدرت عنه الممكنات.
ثم بعد هذا يجعل هذا الوجود هو وجود كل موجود، فليس عنده وجودان: أحدهما واجب، والآخر ممكن. ولا أحدهما خالق، والآخر مخلوق، بل عين الوجود الواجب هو عين الوجود الممكن، مع تعدد المراتب، والمراتب عنده هي الأعيان الثابتة في العدم، على زعم من يقول: إن المعدوم شيء، ولا ريب أن من جعل المعدوم شيئا ثابتا في الخارج عن الذهن فقوله باطل.
لكن أولئك يقولون: إن الخالق جعل لهذه الأعيان وجودًا مخلوقًا، وابن عربي يقول: بل نفس وجوده فاض عليها، فهي مفتقرة إليه في وجوده، وهو مفتقر إلى ثبوتها، ولهذا قال: فيعبدني وأعبده، ويحمدني وأحمده، ولهذا امتنع التكليف عنده، فإن التكليف يكون من مكلِّف لمكلَّف، أحدهما آمرًا والآخر مأمورًا، فامتنع التكليف.
ولهذا مثل ما يوجد من الكلام والسمع بقول النبي صلى الله عليه وسلم: "إن الله تجاوز لأمتي عما حدثت به أنفسها ما لم تتكلم به، أو تعمل به". فلما كان المحدث هنا هو المحدث، جعل هذا مثلا لوجود الرب، فعنده كل كلام في الوجود كلامه وهو المتكلم عنده، وهو المستمع.
ولهذا يقول:
إن قلت عبد فذاك ميت وفي موضع آخر رأيته بخطه
إن قلت عبد فذاك نفى
لأن العبد ليس له عنده وجود مخلوق، بل وجوده هو الوجود الواجب القديم عنده، وهذا مبسوط في غير هذا الموضع .
فإن كلام الرجل يفسر بعضه بعضا، وهذا الأصل وهو القول بوحدة الوجود قوله وقول ابن سبعين، وصاحبه الششتري، والتلمساني، والصدر القونوي، وسعيد الفرغاني، وعبد الله البلياني، وابن الفارض صاحب نظم السلوك، وغير هؤلاء من أهل الإلحاد، القائلين بالوحدة والحلول والاتحاد.
وأما مدلول هذا الشعر: فإن قوله:
ياليت شعري من المكلف
استفهام إنكار للمكلف. ثم قال:
إن قلت عبد فذاك ميت
وفي موضع آخر قال: فذاك نفى. وكلاهما باطل، فإن العبد موجود وثابت ليس بمعدوم منتف، ولكن الله هو الذي جعله موجودًا ثابتا، وهذا هو دين المسلمين، أن كل ما سوى الله مخلوق لله موجود، يجعل الله له وجودًا، فليس لشيء من الأشياء وجود إلا بإيجاد الله له، وهو باعتبار نفسه لا يستحق إلا العدم. . .
موجودًا حيًا ناطقًا فاعلا مريدًا قادرًا، بل هذا كله. . . لا يمنع ثبوت ذواتها، وصفاتها، وأفعالها.
فهو سبحانه هو الذي جعل الحي حيًا، بل هو الذي جعل المسلم مسلما، والمصلى مصليا، كما قال الخليل: {رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ} [البقرة: 128]، وقال: {رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلاَةِ وَمِن ذُرِّيَّتِي رَبَّنَا وَتَقَبَّلْ دُعَاء} [إبراهيم: 40].
وهذه مسألة خلق أفعال العبيد، وهي مذهب أهل السنة والجماعة، مع اتفاقهم على أن العبد مأمور منهي، مثاب معاقب، موعود متوعد، وهو سبحانه الذي جعل الأبيض أبيض، والأسود أسود، والطويل طويلا، والقصير قصيرًا، والمتحرك متحركا، والساكن ساكنًا، والرطب رطبا، واليابس يابسًا، والذكر ذكرًا، والأنثي أنثى، والحلو حلوا، والمر مرًا.
ومع هذا، فالأعيان تتصف بهذه الصفات، والله تعالى خالق الذوات وصفاتها، فأي عجب من اتصاف الذات المخلوقة بصفاتها؟ ومن أين يكون الله خالق ذلك كله بالحق؟ فإذا قال القائل: الرب حق والعبد حق: فإن أراد به أن هذا الحق هو عين هذا، فهذا هو الاتحاد والإلحاد، وهذا هو الذي ينافي التكليف. وإن أراد أن العبد حق مخلوق، خلقه الخالق، فهذا مذهب المسلمين، وذلك لا ينافي أن يكون الخالق مُمكنًا للمخلوق، كما أنه خالق له.
وقوله:
إن قلت عبد فذاك ميت. كذب، فإن العبد ليس بميت، بل هو حي أحياه الله تعالى، كما قال تعالى: {كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ}[البقرة: 28]، والله لا يكلف الميت، وإنما يكلف الحي، وإذا قيل: إنه أراد بقوله: [ميت] أنه باعتبار نفسه لا حياة له. قيل: تفسير مراده بهذا فاسد لفظًا ومعنى، أما اللفظ فلأن كلامه لا يقتضي ذلك، وأما المعنى فلأنه إذا فسر ذلك لم يناف التكليف.
فإذا كان ميتًا لولا إحياء الله وقد أحياه الله، فقد صار حيًا بإحياء الله له، وحينئذ فالله إنما كلف حيًا لم يكلف ميتًا، وأما أقوال إخوان الملاحدة والمحامين عنهم أنه قال:
ليت شعري من المكلف
مع علمه بأن التكليف حق فحار لمن ينسبه في القيام به. فقال:
إن قلت عبد فذاك ميت
والميت، ليس له من نفسه حركة، بل من غيره يقلبه كما يشاء.
وكذلك العبد وإن كان حيًا فإنه مع ربه كالميت مع الغاسل، ليس له من نفسه فعل بغير الله. فيقال لهم: هذا العذر باطل من وجوه:
أحدها: لأنه لا حيرة هنا، بل المكلف هو العبد بلا امتراء ولا حيرة، فإن الله يمتنع أن يكون هو المكلف بالصيام، والطواف، ورمي الجمار، بل هو الآمر بذلك، والعبد هو المأمور بذلك، ومن حار: هل المأمور بذلك الله أو العبد؟ فهو إما يكون فاسد العقل مجنونًا، وإما فاسد الدين ملحدًا زنديقا.
وكون الله خالقًا للعبد ولفعله، لا يمنع أن يكون العبد هو المأمور المنهي، فإنه لم يقل أحد قط: إن الله هو الذي يركع، ويسجد، ويطوف، ويرمي الجمار، ويصوم شهر رمضان، بل جميع الأمة متفقون على أن العبد هو الراكع، الساجد، الصائم، العابد، لا نزاع في ذلك بين أهل السنة والقدرية.
الثاني: أن قوله: إن العبد وإن كان حيًا فإنه مع ربه كالميت مع الغاسل ليس بصحيح، فإن الميت ليس له إحساس، ولا إرادة، لما يقوم
به من الحركة، ولا قدرة على ذلك، ولا يوصف بأنه يحب الفعل، أو يبغضه، أو يريده، أو يكرهه، ولا أنه يركع ويسجد، ويصوم ويحج، ويجاهد العدو
وقول من قال بهذا: لا يحمد الميت على فعل الغاسل، ولا يذم ولا يثاب ولا يعاقب، وأما العبد فإن الله جعله حيًا مريدًا، قادرًا فاعلا، وهو يصوم ويصلي، ويحج ويقتل، ويزني باختياره ومشيئته، والله خالق ذاته وصفاته وأفعاله، فله مشيئة والله خالق مشيئته، كما قال تعالى: {لِمَن شَاء مِنكُمْ أَن يَسْتَقِيمَ وَمَا تَشَاؤُونَ إِلَّا أَن يَشَاء اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} [التكوير: 28، 29].
وله قدرة، والله خالق قدرته، وهو مصل صائم، حاج معتمر، والله خالقه وخالق أفعاله، فتمثيله بالميت تمثيل باطل.
الثالث: أن يقال: إن كان كالميت مع الغاسل، فيكون الغاسل هو المكلف، فيكون الله هو المكلف، فيلزم أن يكون الرب هو المكلف.
الرابع: أن عقلاء بني آدم متفقون على ما فطرهم الله عليه، من أن العبد الحي يؤمر وينهى، ويحمد ويذم على أفعاله الاختيارية، متفقون على أن من احتج بالقدر على ظلمه وفواحشه، لم يقبل ذلك منه، فلو ظلم ظالم لغيره، لم يقبل أحد منه أن يدفع عن نفسه الملام بالقدر. وأما الميت فليس في العقلاء من يذمه، ولا يأمره ولا ينهاه، فكيف يقاس هذا بهذا؟
وأما قول القائل: فإن الله لو لم يُقَوِّ العبد على التكليف لما قدر على ذلك
فكلام صحيح، لكن ليس فيه ما ينافي أن يكون مكلفًا، مأمورًا منهيًا، مصليا صائما، قاتلا زانيا.
وأما قوله: فالفعل لله حقيقة، وللعبد مجازًا، فهذا كلام باطل، بل العبد هو المصلي الصائم، الحاج المعتمر المؤمن، وهو الكافر الفاجر، القاتل الزاني، السارق حقيقة، والله تعالى لا يوصف بشيء من هذه الصفات، بل هو منزه عن ذلك، لكنه هو الذي جعل العبد فاعلا لهذه الأفعال، فهذه مخلوقاته ومفعولاته حقيقة، وهي فعل العبد أيضا حقيقة.
ولكن طائفة من أهل الكلام المثبتين للقدر ظنوا أن الفعل هو المفعول، والخلق هو المخلوق، فلما اعتقدوا أن أفعال العباد مخلوقة مفعولة لله، قالوا: فهي فعله. فقيل لهم مع ذلك: أهي فعل العبد؟ فاضطربوا، فمنهم من قال: هي كسبه لا فعله، ولم يفرقوا بين الكسب والفعل بفرق محقق. ومنهم من قال: بل هي فعل بين فاعلين. ومنهم من قال: بل الرب فعل ذات الفعل، والعبد فعل صفاته.
والتحقيق ما عليه أئمة السنة، وجمهور الأمة، من الفرق بين الفعل والمفعول، والخلق والمخلوق، فأفعال العباد هي كغيرها من المحدثات مخلوقة، مفعولة لله، كما أن نفس العبد وسائر صفاته مخلوقة، مفعولة لله، وليس ذلك نفس خلقه وفعله، بل هي مخلوقة ومفعولة، وهذه الأفعال هي فعل العبد القائم به، ليست قائمة بالله، ولا يتصف بها فإنه لا يتصف بمخلوقاته ومفعولاته،
وإنما يتصف بخلقه وفعله، كما يتصف بسائر ما يقوم بذاته، والعبد فاعل لهذه الأفعال، وهو المتصف بها، وله عليها قدرة، وهو فاعلها باختياره ومشيئته، وذلك كله مخلوق لله، فهي فعل العبد، وهي مفعولة للرب.
لكن هذه الصفات لم يخلقها الله بتوسط قدرة العبد، ومشيئته، بخلاف أفعاله الاختيارية، فإنه خلقها بتوسط خلقه لمشيئة العبد وقدرته، كما خلق غير ذلك من المسببات بواسطة أسباب أخر، وهذا مبسوط في غير هذا الموضع، ولكن هذا قدر ما وسعته هذه الورقة، والله أعلم.(مجموع الفياوي بن تيميه)