المنكرات العامة:
من تيقن أن فى السوق منكراً يجرى على الدوام ، أو فى وقت معين وهو قادر على تغييره، لم يجز له أن يسقط ذلك عنه بالقعود فى بيته، بل يلزمه الخروج، فإن قدر على تغيير البعض لزمه.
وحق عل كل مسلم أن يبدأ بنفسه، فيصلحها بالمواظبة على الفرائض وترك المحرمات ، ثم يعلم ذلك أهله وأقاربه، ثم يتعدى إلي جيرانه وأهل محلته، ثم إلي أهل بلده، ثم إلي السواد كذلك إلي أقصى العالم، فإن قام بذلك الأقرب ، سقط عن الأبعد، وإلا خرج به كل قادر عليه.
الفصل الثانى: فى أمر الأمراء والسلاطين بالمعروف ونهيهم عن المنكر.
وقد ذكرنا درجات الأمر بالمعروف ، والجائز من ذلك مع السلاطين القسمان الأولان وهما : التعريف والوعظ، فأما تخشين القول، نحو: يا ظالم، يا من لا يخاف الله، فإن كان ذلك يحرك فتنة يتعدى شرها إلى الغير، لم يجز، وإن لم يخف إلا على نفسه، فهو جائز عند جمهور العلماء، والذى أراه المنع من ذلك، لأن المقصود إزالة المنكر ، وحمل السلطان بالانبساط عليه على فعل المنكر أكبر من المنكر الذى قصد إزالته، وذلك أن أقرب السلاطين التعظيم، فان سمعو من آحاد الرعية: يا ظالم، يا فاسق، رأوا غاية الذل، لم يصبروا على ذلك.
قال الإمام أحمد رحمه الله: لا تتعرضن بالسلطان، فان سيفه مسلول، فأما ما جرى من السلف من التعرض لأمرائهم، فانهم كانوا يهابون العلماء، فإذا انبسطوا عليهم احتملوهم فى الأغلب.
وقد جمعت مواعظ السلف للخلفاء والأمراء فى كتاب " المصباح المضئ" وأنا أنتخب منه ها هنا حكايات.
قال سعيد بن عامر لعمر بن الخطاب رضى الله عنه : إنى موصيك بكلمات من جوامع الآلام ومعالمه: اخش الله فى الناس، ولا تخش الناس فى الله ، ولا يخالف قولك فعلك، فإن خير القول ما صدقه الفعل، وأحب لقريب المسلمين وبعيدهم ما تحب لنفسك وأهل بيتك ، وخض الغمرات إلى الحق حيث علمته، ولا تخف فى الله لومة لائم . قال : ومن يستطع ذلك يا أبا سعيد؟ قال: من ركب فى عنقه مثل الذى ركب فى عنقك.
وقال قتادة: خرج عمر بن الخطاب رضى الله عنه من المسجد ومعه الجارود، فإذا امرأة برزة على الطريق، فسلم عليها، فردت عليه، أو سلمت عليه، فرد عليها، فقال: هيه يا عمر، عهدتك وأنت تسمى عميراً فى سوق عكاظ تصارع الصبيان، فلم تذهب الأيام حتى سميت عمر، ثم لم تذهب الأيام حتى سميت أمير المؤمنين، فاتق الله فى الرعية، واعلم أنه من خاف الموت خشى الفوت، فبكى عمر رضى الله عنه ، فقال الجارود: هيه ، لقد تجرأت على أمير المؤمنين وأبكيتيه.
فقال عمر: دعها ، أما تعرف هذه؟ هى خولة بن حكيم التى سمع الله قولها من فوق سماواته، فعمر والله أحرى أن يسمع كلامها.
ودخل شيخ من الأزد على معاوية، فقال: اتق الله يا معاوية، واعلم أنك كل يوم يخرج عنك، وفى كل ليلة تأتى عليك لا تزداد من الدنيا إلا بعداً، ومن الآخرة إلا قرباً، وعلى إثرك طالب لا تفوته، وقد نصب لك علم لا تجوزه، فما أسرع ما تبلغ العلم، وما أوشك أن لحقك الطالب، وإنا وما نحن فيه وأنت زائل، والذى نحن صائرون إليه باق ، إن خيراً فخير ، وإن شراً فشر.
ودخل سليمان بن عبد الملك المدينة، فأقام بها ثلاثاً، فقال: ما هاهنا رجل ممن أدرك أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يحدثنا؟ فقيل له : ها هنا رجل يقال له أبو حازم ، فبعث إليه فجاء. فقال سليمان: يا أبا حازم، ما هذا الجفاء؟ قال أبو حازم: وأى جفاء رأيت منى؟ فقال له: أتاني وجوه المدينة كلهم ولم تأتنى ؟! فقال : ما جرى بينى وبينك معرفة آتيك عليها. قال صدق الشيخ. يا أبا حازم، ما لنا نكره الموت؟ قال : لأنكم عمرتم دنياكم وخربتم آخرتكم، فأنتم تكرهون أن تنتقلو من العمران إلى الخرب. قال: صدقت يا أبا حازم، فكيف القدوم على الله تعالى؟ قال : أما المحسن فكالغائب يقدم على أهله فرحاً مسروراً ، وأما المسئ فكالآبق يقدم على مولاه خائفاً محزوناً. فبكى سليمان وقال: ليت شعرى، ما لنا عند الله يا أبا حازم، فقال أبو حازم: اعرض نفسك على كتاب الله ؟ قال: عند قوله {إن الأبرار لفى نعيم * وإن الفجار لفى جحيم} [الإنفطار 13- 14]. قال يا أبا حازم، فأين رحمة الله؟ قال: {قريب من المحسنين} [الأعراف :56] قال: يا أبا حازم، من أعقل الناس؟ قال : من تعلم الحكمة وعلمها الناس. قال :فمن أحمق الناس؟ قال: من حط نفسه فى هوى رجل وهو ظالم، فباع أخرته بدنيا غيره. قال : يا أبا حازم فما أسمع الدعاء؟ قال: دعاء المخبتين. قال : فما أزكى الصدقة؟ قال : جهد المقل. قال يا أبا حازم، ما تقول فيما نحن فيه؟ قال : أعفني من هذا. قال سليمان نصيحة تلقيها. قال أبو حازم : إن ناساً أخذوا هذا الأمر عنوة من غير مشاورة المسلمين، ولا إجماع عن رأيهم، فسفكوا فيه الدماء على طلب الدنيا، ثم ارتحلوا عنه، فليت شعرى، ما قالوا؟ وما قيل لهم؟ فقال بعض جلسائهم؟ بئس ما قلت يا شيخ، فقال أبو حازم: كذبت، إن الله أخذ ميثاق العلماء ليبيننه للناس ولا يكتمونه. قال سليمان: يا أبا حازم، أصبحنا تصيب منا ونصيب منك. قال: أعود بالله من ذلك . قال : ولم؟ قال: أخاف أن أركن إليكم شيئا قليلاً، فيذيقنى ضعف الحياة، وضعف الممات . قال . فأشر على، قال : اتق الله أن يراك حيث نهاك ، أو يفقدك حيث أمرك. قال : يا أبا حازم، ادع لنا بخير. فقال: اللهم إن كان سليمان وليك فيسره للخير، وإن كان غير ذلك ، فخذ إلى الخير بناصيته، فقال : يا غلام، هات مائة دينار ثم قال: خذ يا أبا حازم .قال لا حاجة لى به، لى ولغيرى فى هذا المال أسوة، فإن واسيت بيننا وإلا فلا حاجة لى فيها، إنى أخاف أن يكون لما سمعت من كلامى. فكأن سليمان أعجب بأبى حازم، فقال الزهرى: إنه لجارى منذ ثلاثين سنة، ما كلمته قط، فقال أبو حازم: إنك نسيت الله فنسيتنى . قال الزهرى : أتشتمنى؟ قال سليمان: بل أنت شتمت نفسك، أما علمت أن للجار على الجار حقاً؟ قال أبو حازم: إن بنى إسرائيل لما كانوا على الصواب كانت الأمراء تحتاج إلى العلماء، وكانت العلماء تفر بدينها منهم، فلما رأى ذلك قوم من أذلة الناس تعلموا العلم، وأتوا به الأمراء، واجتمع القوم على المعصية، فسقطوا وانتكسوا، ولو كان العلماء يصونون دينهم وعلمهم ، لم تزل الأمراء تهابهم. قال الزهرى: كأنك إياى تريد وبى تعرض؟ قال : هو ما تسمع.
وحكى أن أعرابيا دخل على سليمان بن عبد الملك ، فقال: يا أمير المؤمنين، إنى مكلمك بكلام فاحتمله وإن كرهته، فإن وراءه ما تحب إن قبلته. قال : قل ، قال : يا أمير المؤمنين، إنه قد أكتنفك رجال ابتاعوا دنياك بدينهم، ورضاك بسخط ربهم، خافوك فى الله ولم يخافوه فيك، خربوا الآخرة وعمروا الدنيا، فهم حرب للآخرة، سلم للدنيا، فلا تأمنهم على ما ائتمنك الله عليه، فانهم لم يألو الأمانة تضييعاً والأمة خسفاً، وأنت مسؤول عما اجترحوا، وليسوا بمسؤولين عما اجترحت، فلا تصلح دنياهم بفساد آخرتك، فان أعظم الناس غبناً بائع آخرته بدنيا غيره. فقال سليمان: أما أنت فقد سللت لسانك، وهو أقطع من سيفك . فقال: أجل يا أمير المؤمنين ، لك لا عليك . قال: فهل من حاجة فى ذات نفسك؟ قال : أما خاصة دون عامة فلا، ثم قام فخرج. فقال سليمان : لله دره ما أشرف أصله ، وأجمع قلبه، وأذرب لسانه، وأصدق نيته ، وأروع نفسه، هكذا فليكن الشرف والعقل.
وقيل : قال عمر بن عبد العزيز رحمه الله لأبى حازم: عظنى. فقال: اضطجع ثم اجعل الموت عند رأسك ، ثم انظر ما تحب أن يكون فيك تلك الساعة فخذ فيه الآن، وما تكره أن يكون فيك تلك الساعة فدعه الآن. وقال محمد بن كعب لعمر بن عبد العزيز: يا أمير المؤمنين، إنما الدنيا سوق من الأسواق ، منها خرج الناس بما يضرهم وما ينفعهم، وكم من قوم غرهم منها مثل الذى أصبحنا فيه، حتى أتاهم الموت فاستوعبهم فخرجوا منها ملومين لم يأخذوا منها لما أحبوا من الآخرة عدة، ولا لما كرهوا منها جنة، اقتسم ما جمعوا من لم يحمدهم، وصاروا إلى من لا يعذرهم فنحن محققون يا أمير المؤمنين أن ننظر إلى تلك الأعمال التى نغبطهم بها فنخلفهم فيها، وإلى الأعمال التى نتخوف عليهم فيها فنكف عنها، فاتق الله ، وافتح الأبواب، وسهل الحجاب، وانصر المظلوم، ورد الظالم. ثلاث من كن فيه استكمل الأيمان بالله عز وجل: إذا رضى لم يدخله رضاه فى الباطل، وإذا غضب لم يخرجه غضبه من الحق، وإذا قدر لم يتناول ما ليس له.ودخل عطاء بن أبى رباح على هشام ، فرحب به وقال: ما حاجتك يا أبا محمد؟ وكان عنده أشراف الناس يتحدثون، فسكتوا، فذكره عطاء بأرزاق أهل الحرمين وعطياتهم. فقال: نعم يا غلام اكتب لأهل المدينة وأهل مكة بعطاء أرزاقهم، ثم قال : يا أبا محمد هل من حاجة غيرها؟ فقال: نعم فذكره بأهل الحجاز، وأهل نجد، وأهل الثغور، ففعل مثل ذلك، حتى ذكره بأهل الذمة أن لا يكلفوا مالا يطيقون ، فأجابه إلى ذلك، ثم قال له فى آخر ذلك: هل من حاجة غيرها؟ قال : نعم يا أمير المؤمنين، اتق الله فى نفسك ، فإنك خلقت وحدك، وتموت وحدك، وتحشر وحدك، وتحاسب وحدك، لا والله ما معك ممن ترى أحد. قال: فأكب هشام يبكى، وقام عطاء. فلما كان عند الباب إذا رجل قد تبعه بكيس ما تدرى ما فيه، أدراهم أم دنانير؟ وقال: إن أمير المؤمنين قد أمر لك بهذا، فقال: {ما أسألكم عليه من أجر إن أجرى إلا على رب العالمين} ثم خرج ولا والله ما شرب عندهم حسوة ماء فما فوقها.
وعن محمد بن على قال: إنى لحاضر مجلس المنصور، وفيه ابن أبى ذئب، وكان والى المدينة والحسن بن زيد، فأتى الغفاريون فشكوا إلى أبى جعفر المنصور شيئاً من أمر الحسن بن زيد، فقال الحسن: يا أمير المؤمنين، سل عنهم ابن أبى ذئب. قال: فسأله عنهم ، فقال: أشهد أنهم أهل الحطم فى أعراض الناس. فقال أبو جعفر: قد سمعتم؟ فقال الغفاريون: يا أمير المؤمنين، فسله عن ا لحسن بن زيد. فسأله، فقال: أشهد أنه يحكم بغير الحق. فقال: قد سمعت يا حسن . قال يا أمير المؤمنين، سله عن نفسك. فقال: ما تقول فى؟ قال :أو يعفينى أمير المؤمنين؟ فقال والله لتخبرنى. فقال أشهد أنك أخذت هذا المال من غير حقه، وجعلته فى غير أهله. فوضع يده فى قفا ابن أبى ذئب، وجعل يقول له: أما والله ولا أنا لأخذت أبناء فارس والروم والدليم والترك بهذا المكان منك. فقال ابن أبى ذئب: قد ولى أبو بكر وعمر فأخذا بالحق وقسما بالسوية، وأخذا بأقفاء فارس والروم، فخلاه أبو جعفر ، وقال : والله لولا أنى أعلم أنك صادق لقتلتك ، فقال: والله يا أمير المؤمنين إنى أنصح لك من ابن المهدى.
وعن الأوزاعى رحمه الله قال: بعث إلى المنصور وأنا بالساحل فأتيته، فلما وصلت إليه وسلمت عليه استجلسنى، ثم قال: ما الذى أبطأ بك يا أوزاعى؟
قلت : وما الذى تريد يا أمير المؤمنين؟ قال: أريد الأخذ عنكم والاقتباس منكم.
قلت : فانظر يا أمير المؤمنين أن تسمع شيئاً ثم لا تعمل به، فصاح بى الربيع وأهوى بيده إلى السيف، فانتهزه المنصور وقال : هذا مجلس مثوبة لا مجلس عقوبة، فطابت نفسى وانبسطت فى الكلام ، فقلت: يا أمير المؤمنين، حدثنى مكحول عن عطية بن بشر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : " أيما وال مات غاشاً لرعيته حرم الله عليه الجنة" يا أمير المؤمنين ، كنت فى شغل شاغل من خاصة نفسك عن عامة الناس الذين أصبحت تملكهم، أحمرهم ، وأسودهم ومسلمهم، وكافرهم ، وكل له عليك نصيب من العدل ، فكيف بك إذا انبعث منهم فئام وراء فئام (2) ،ليس منهم أحد إلا هو يشكو بلية أدخلتها عليه، أو ظلامة سقتها إليه.
يا أمير المؤمنين، حدثنى مكحول عن زياد بن حارثة عن حبيب بن سلمة، أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم دعا إلى القصاص نفسه فى خدش خدشه أعرابياً لم يتعمده، فأتاه جبريل فقال : يا محمد ، إن الله تعالى لم يبعثك جباراً ولا متكبراً، فدعا ? الأعرابى، فقال: " اقتص منى" ، فقال الأعرابى: قد أحللتك، بأبي أنت وأمى، وما كنت لأفعل ذلك أبداً، ولو أتيت على نفسى. فدعا له بخير. يا أمير المؤمنين، رض نفسك لنفسك، وخذ لها الأمان من ربك.يا أمير المؤمنين، إن الملك لو بقى لمن قبلك لم يصل إليك، وكذلك لا يبقى لك كما لم يبق لغيرك.يا أمير المؤمنين، جاء فى تأويل هذه الآية عن جدك { ما لهذا الكتاب لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها}[الكهف:49]، قال الصغيرة: التبسم، والكبيرة الضحك، فكيف بما عملته الأيدى، وحصدته الألسن.يا أمير المؤمنين، بلغنى أن عمر بن الخطاب رضى الله عنه قال: لو ماتت سخلة على شاطئ الفرات ضيعة، لخشيت أن أسأل عنها، فكيف بمن حرم عدلك وهو على بساطك؟يا أمير المؤمنين، جاء فى تأويل هذه الآية عن جدك : { يا داود إنا جعلناك خليفة فى الأرض، فاحكم بين الناس بالحق ولا تتبع الهوى} [ص: 26] قال: إذا قعد الخصمان بين يديك، وكان لك فى أحدهما هوى ، فلا تتمنين فى نفسك أن يكون الحق له فيفلج على صاحبه، فأمحوك من نبوتى، ثم لا تكون خليفتى، يا داود: إنما جعلت رسلى إلي عبادى رعاء كرعاء الإبل لعلمهم بالرعاية، ورفقهم بالسياسة، ليجبروا الكسر، ويدلوا الهزيل على الكلأ والماء.يا أمير المؤمنين، إنك قد بليت بأمر لو عرض على السماوات والأرض والجبال لأبين أن يحملنه وأشفقن منه.يا أمير المؤمنين: حدثنى يزيد بن جابر عن ثم قلت : يا أمير المؤمنين، قد سأل جدك العباس رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إمارة على مكة والطائف أو اليمن ، فقال له النبى صلى الله عليه وآله وسلم: " يا عم نفس تنجيها خير من إمارة لا تحصيها" (3) نصيحة منه لعمه وشفقة منه عليه، وأخبره أنه لا يغنى عنه من الله شيئاً إذا أوحى إليه : {وأنذر عشريتك الأقربين}[الشعراء:214] فقال : يا عباس ، ويا صفية، ويا فاطمة، إنى لست أغنى عنكم من الله شيئاً، لى عملى ولكم عملكم، وقد قال عمر بن الخطاب : لا يقيم أمر الناس إلا حصيف العقل، لا تأخذه فى الله لومة لائم، وذكر تمام كلامه للمنصور ، ثم قال : فهى نصيحة، والسلام عليك. ثم نهض فقال : إلى أين ؟ فقال : إلى الوطن بأذن أمير المؤمنين. فقال : أذنت لك، وشكرت لك نصيحتك، وقبلتها بقبولها، والله الموفق للخير، والمعين عليه، وبه أستعين، وعليه أتوكل، وهو حسبى ونعم الوكيل، فلا تخلنى من مطالعتك إياى بمثلها، فإنك المقبول القول غير المتهم فى النصيحة. قلت: أفعل إن شاء الله. فأمر له بمال يستعين به على خروجه، فلم يقبله، وقال: أنا فى غنى عنه، وما كنت لأبيع نصيحتى بعرض الدنيا كلها، وعرف المنصور مذهبه فلم يجد عليه فى رده. ولما حج الرشيد قيل له: يا أمير المؤمنين، قد حج شيبان. قال: اطلبوه لى، فأتوه به، فقال: يا شيبان، عظنى، قال: يا أمير المؤمنين، أنا رجل ألكن، لا أفصح بالعربية، فجئنى بمن يفهم كلامى حتى أكلمه. فأتى برجل يفهم كلامه، فقال له بالنبطية: قل له: يا أمير المؤمنين، إن الذى يخوفك قبل أن تبلغ المأمن، أنصح لك من الذى يؤمنك قبل أن تبلغ الخوف، قال له: أى شىء تفسير هذا؟ قال: قله: الذى يقول لك: اتق الله فإنك رجل مسؤول عن هذه الأمة، استرعاك الله عليها، وقلدك أمورها، وأنت مسؤول عنها، فاعدل فى الرعية، واقسم بالسوية، وانفذ فى السرية، واتق الله فى نفسك، هذا الذى يخوفك، فإذا بلغت المأمن أمنت، هذا أنصح لك ممن يقول: أنتم أهل بيت مغفور لكم، وأنتم قرابة نبيكم وفى شفاعته، فلا يزال يؤمنك حتى إذا بلغت الخوف عطبت، قال: فبكى هارون حتى رحمه من حوله، ثم قال: زدنى، قال: حسبك.
وعن علقمة بن أبى مرثد، قال: لما قدم عمر بن هبيرة العراق، أرسل إلى الحسن وإلى الشعبى، فأمر لهما ببيت، فكانا فيه نحواً من شهر، ثم دخل عليهما وجلس معظماً لهما، فقال: إن أمير المؤمنين يزيد بن عبد الملك يكتب إلى كتباً، أعرف أن فى إنقاذها الهلكة، فإن أطعته عصيت الله، وإن عصيته أطعت الله، فهل تريان فى متابعتى إياه فرجاً؟ فقال الحسن: يا أبا عمرو، أجب الأمير. فتكلم الشعبى، فانحط فى أمر ابن هبيرة، كأنه عذره، فقال: ما تقول أنت يا أبا سعيد؟ قال: أيها الأمير، فقد قال الشعبى ما قد سمعت. فقال: ما تقول أنت؟ قال: أقول: يا عمر بن هبيرة، ويوشك أن ينزل بك ملك من ملائكة الله تعالى فظ غليظ لا يعصى الله ما أمره، فيخرجك من سعة قصرك إلى ضيق قبرك. يا عمر بن هبيرة، إن تتق الله يعصمك من يزيد بن عبد الملك، ولن يعصمك يزيد بن عبد الملك من الله تعالى. يا عمر بن هبيرة، لا تأمن أن ينظر الله إليك على أقبح ما تعمل فى طاعة يزيد بن عبد الملك، فيغلق به باب المغفرة دونك. يا عمر بن هبيرة، لقد أدركت ناساً من صدر هذه الأمة، كانوا عن الدنيا وهى مقبلة عليهم أشد إدباراً من إقبالكم عليها وهى مدبرة عنكم.
يا عمر بن هبيرة، إنى أخوفك مقاماً خوفكه الله تعالى فقال: {ذلك لمن خاف مقامى وخاف وعيد} [إبراهيم:14]. يا عمر بن هبيرة، إن تك مع الله فى طاعته، كفاك يزيد بن عبد الملك، وإن تك مع يزيد بن عبد الملك على معاصى الله وكلك الله إليه. فبكى عمر بن هبيرة وقام بعبرته.فلما كان من الغد أرسل إليهما باذنهما وجوائزهما، وأكثر فيها للحسن، وكان فى جائزة الشعبى بعض الإقتار، فخرج الشعبى إلى المسجد، فقال: أيها الناس، من استطاع منكم أن يؤثر الله تعالى على خلقه، فليفعل، فوالذى نفسى بيده، ما علم الحسن شيئاً منه فجهلته، ولكنى أردت وجه ابن هبيرة، فأقصانى الله منه.ودخل محمد بن واسع رحمه الله على بلال بن أبى بردة فى يوم حار وبلال فى حبشة، وعنده الثلج، فقال له: يا أبا عبد الله، كيف ترى بيتنا هذا؟ قال: إن بيتك لطيب، والجنة أطيب منه، وذكر النار يلهى عنه. قال: ما تقول فى القدر؟ قال: جيرانك أهل القبور، ففكر فيهم، فإن فيهم شغلاً عن القدر. قال: ادع الله لى. قال: وما نصنع بدعائى؟ وعلى بابك كذا وكذا يقولون: إنك ظلمتهم، يرفع دعاؤهم قبل دعائى، لا تظلم، ولا تحتاج لدعائى.فهذا مختصر من أخبار من وعظ الأمراء، فمن أراد الزيادة، فلينظر فى "المصباح المضيء".
وهذه كانت سير العلماء وعاداتهم فى الأمر بالمعروف، والنهى عن المنكر، وقلة مبالاتهم بسطوات السلاطين إيثاراً لإقامة حق الله تعالى على تقاتهم (4) ، إلا أن السلاطين كانوا يعرفون حق العلم وفضله فيصبرون على مضض مواعظ هؤلاء.والذى أراه الآن الهرب من السلاطين، فهو الأولى، فإن قدر لقاء، أقتنع بلطف الموعظة حسب.ولذلك سببان:
أحدهما: يتعلق بالواعظ، وهو سوء قصده وميله إلى الدنيا والرياء، فلا يخلص له وعظه.
والثانى: يتعلق بالموعوظ، فإن حب الدنيا قد شغل الأكثرين عن ذكر الآخرة، وتعظيمهم الدنيا أنساهم تعظيم العلماء، وليس لمؤمن أن يذل نفسه. آخر كتاب الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر، وذكر المصنف قبل ذلك كتاباً فى السماع والوجد، فلنذكر شيئاً منه ها هنا مختصراً.(مختصر منهاج القاصدين)