سابعاً: الأسباب المعينة على قيام الليل
1- معرفة فضل قيام الليل، ومنزلة أهله عند الله تعالى، وما لهم من السعادة في الدنيا والآخرة، وأن لهم الجنة، وقد شهد الله لهم بالإيمان الكامل، وأنهم لا يستوون هم والذين لا يعلمون، وأن قيام الليل من أسباب دخول الجنة، ورفع الدرجات في غرفها العالية، وأنه من صفات عباد الله الصالحين، وأن شرف المؤمن قيام الليل، وأنه مما ينبغي أن يغبط عليه الإنسان المؤمن(113).
2- معرفة كيد الشيطان، وتثبيطه عن قيام الليل والترهيب من ترك قيام شيء من الليل؛ لحديث عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه- قال: ذُكِرَ عند النبي صلى الله عليه وسلم رجل نام ليلة حتى أصبح قال: "ذاك رجل بال الشيطان في أذنه" أو قال: "في أذنيه"(114)؛ ولحديث أبي هريرة - رضي الله عنه- أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "يعقد الشيطان على قافية رأس أحدكم إذا هو نام ثلاث عُقدٍ، يضرب على مكان كل عقدة: عليك ليل طويل فارقد، فإن استيقظ فذكر الله انحلت عقدة، فإن توضأ انحلت عقدة، فإن صلى انحلت عُقَدُهُ، فأصبح نشيطاً طيب النفس، وإلا أصبح خبيث النفس كسلان"(115)؛ ولحديث عبد الله بن عمرو ابن العاص - رضي الله عنهما- قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يا عبد الله لا تكن مثل فلان كان يقوم من الليل فترك قيام الليل"(116). ولحديث عبد الله بن عمر - رضي الله عنهما- أنه رأى رؤيا فقصها على أخته حفصة أم المؤمنين - رضي الله عنها- فقصَّتها على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "نعم الرجل عبد الله لو كان يصلي من الليل" فكان بعدُ لا ينام من الليل إلا قليلاً(117).
وعن أبي هريرة – رضي الله عنه- قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ”إن الله يبغض كل جعظريٍّ جوَّاظ(118)، سخاب(119) بالأسواق، جيفة بالليل، .. بالنهار، عالم بأمر الدنيا جاهل بأمر الآخرة“(120).
3- قصر الأمل وتذكر الموت؛ فإنه يدفع على العمل ويذهب الكسل؛ لحديث عبد الله بن عمر – رضي الله عنهما- قال: أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم بمنكبي فقال: ”كن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل“. وكان ابن عمر يقول: "إذا أمسيت فلا تنتظر الصباح، وإذا أصبحت فلا تنتظر المساء، وخذ من صحتك لمرضك، ومن حياتك لموتك"(121).
قال الإمام الشافعي – رحمه الله تعالى-:
اغتنم في الفراغ فضل ركوع
... ... فعسى أن يكون موتك بغتة
كم صحيح رأيت من غير سقم
... ... ذهبت نفسه الصحيحة فلتة(122)
ولما نُعِيَ إليه عبد الله بن عبد الرحمن الدارمي الحافظ أنشد:
إن عشت تفجع بالأحبة كلهم
... ... وبقاء نفسك لا أبا لك أفجع(123)
وقال آخر:
صلاتك نورٌ والعباد رقودٌ
... ... ونومك ضد للصلاة عنيد
وعمرك غُنْمٌ إن عقلت ومهلةٌ
... ... يسيرُ ويفنى دائباً ويبيد(124)
وقال بعض الصالحين:
عجبتُ من جسمٍ ومن صحةٍ
... ... ومن فتىً نام إلى الفجر
فالموتُ لا تؤمن خطفاتُهُ
... ... في ظلم الليل إذا يسرِي
من بين منقول إلى حفرةٍ
... ... يفترش الأعمال في القبرِ
وبين مأخوذٍ على غرةٍ
... ... بات طويل الكبر والفخرِ
عاجله الموتُ على غفلةٍ
... ... فمات محسوراً إلى الحشرِ(125)
4- اغتنام الصحة والفراغ؛ ليكتب له ما كان يعمل؛ لحديث أبي موسى – رضي الله عنه- قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ”إذا مرض العبد أو سافر كُتب له مثلُ ما كان يعمل مقيماً صحيحاً“(126).
فينبغي للعاقل أن لا يفوته هذا الفضل العظيم، فيهتجد في حال الصحة، والفراغ، والإقامة في الأعمال الصالحة حتى تكتب له إذا عجز أو شغل؛ ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم: ”نعمتان مغبون فيهما كثير من الناس: الصحة والفراغ“(127). وعن ابن عباس – رضي الله عنهما- قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لرجل وهو يعظه: ”اغتنم خمساً قبل خمس: شبابك قبل هرمك، وصحتك قبل سقمك، وغناك قبل فقرك، وفراغك قبل شغلك، وحياتك قبل موتك“(128).
5- الحرص على النوم مبكراً؛ ليأخذ قوة ونشاطاً يستعين بذلك على قيام الليل وصلاة الفجر؛ لحديث أبي برزة – رضي الله عنه- أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يكره النوم قبل العشاء، والحديث بعدها(129).
6- الحرص على آداب النوم، وذلك بأن ينام على طهارة، وإن لم يكن على طهارة توضأ، وصلى ركعتين سنة الوضوء، ثم يدعو بما ثبت من أذكار النوم، ويجمع كفيه ثم ينفث فيهما ويقرأ فيهما: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} و{قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ} و{قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ} ثم يمسح بهما ما استطاع من جسده يبدأ بهما على رأسه ووجهه وما أقبل من جسده، يفعل ذلك ثلاث مرات، ويقرأ آية الكرسي، والآيتين من آخر سورة البقرة، ويكمل أذكار النوم(130)، وهكذا يكون من أسباب الإعانة على قيام الليل، وعليه أن يأخذ بالأسباب بأن يضع ساعة عند رأسه تنبهه، أو يوصي من حوله من أهله، أو أقاربه، أو جيرانه، أو زملائه أن يوقظوه.
7- العناية بجملة الأسباب التي تعين على قيام الليل، فلا يكثر الأكل، ولا يتعب نفسه بالنهار بالأعمال التي لا فائدة فيها بل ينظم أعماله النافعة، ولا يترك القيلولة بالنهار، فإنها تعين على قيام الليل، ويجتنب الذنوب والمعاصي، وقد ذُكِرَ عن الثوري – رحمه الله- أنه قال: "حُرِمْتُ قيام الليل خمسة أشهر بذنب أذنبته" فالذنوب قد يحرم بها العبد فيفوته كثير من الغنائم: كقيام الليل، ومن أعظم البواعث على قيام الليل: سلامة القلب للمسلمين، وطهارته من البدع، وإعراضه عن فضول الدنيا، ومن أعظم البواعث على قيام الليل: حب الله تعالى وقوة الإيمان بأنه إذا قام ناجى ربه وأنه حاضره ومشاهده، فتحمله المناجاة على طول القيام(131)، ففي الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ”إن في الليل لساعة لا يوافقها عبد مسلم يسأل الله خيراً من أمر الدنيا والآخرة إلا أعطاه إياه وذلك كل ليلة“(132).
ثامناً صلاة النهار والليل المطلقة:
يصلي المسلم ما شاء من ليل أو نهار من الصلوات المطلقة في غير أوقات النهي، وتكون صلاته مثنى مثنى؛ لحديث عبد الله بن عمر - رضي الله عنهما- عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "صلاة الليل والنهار، مثنى مثنى..."(133)، فيصلي المؤمن ما شاء، وقد ثبت من حديث أنس بن مالك في هذه الآية : {تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ} [سورة السجدة، الآية: 16] قال: "كانوا يتيقظون ما بين المغرب والعشاء يصلون". وكان الحسن يقول: "قيام الليل"(134). وعن أنس - رضي الله عنه- أنه قال في قوله تعالى: {كَانُوا قَلِيلاً مِّنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ} [سورة الذاريات، الآية: 17] قال: "كانوا يصلون في ما بين المغرب والعشاء وكذلك {تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ}"(135). وعن حذيفة - رضي الله عنه- "أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى المغرب فما زال يصلي في المسجد حتى صلى العشاء الآخرة"(136)، وفي رواية عن حذيفة - رضي الله عنه- قال: متى عهدك بالنبي صلى الله عليه وسلم؟ فقلت: ما لي به عهد منذ كذا وكذا، فنالت مني، فقلت لها: دعيني آتي النبي صلى الله عليه وسلم فأصلي معه المغرب وأسأله أن يستغفر لي ولك، فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم فصليت معه المغرب، فصلى حتى صلى العشاء، ثم انفتل فتبعتُه، فسمع صوتي فقال: "من هذا حذيفة"؟ قلت: نعم، قال: "ما حاجتك غفر الله لك ولأمك"؟ قال: "إن هذا ملك لم ينزل الأرض قطُّ قبل هذه الليلة استأذن ربَّه أن يسلم عليَّ ويبشرني بأن فاطمة سيدة نساء أهل الجنة، وأن الحسن والحسين سيِّدا شباب أهل الجنة"(137). وفي لفظ له: "أتيت النبي صلى الله عليه وسلم فصليت معه المغرب، فصلى إلى العشاء"(138).
تاسعاً: جواز صلاة التطوع جالساً:
تصح صلاة التطوع مع القدرة على القيام، قال الإمام النووي – رحمه الله-: "وهو إجماع العلماء"(139). كما يصح أداء بعض التطوع من قيام وبعضه من قعود(140)، وأما صلاة الفريضة فالقيام فيها ركن، من تركه مع القدرة عليه فصلاته باطلة(141).
وقد ثبتت الأحاديث بذلك، ففي حديث عائشة – رضي الله عنها- في صلاة النبي صلى الله عليه وسلم بالليل، قالت: ”... كان يصلي من الليل تسع ركعات، فيهن الوتر، وكان يصلي ليلاً طويلاً قائماً، وليلاً طويلاً قاعداً، وكان إذا قرأ وهو قائم ركع وسجد وهو قائم، وإذا قرأ قاعداً ركع وسجد وهو قاعد...“(142).
وعنها رضي الله عنها قالت: ”ما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ في شيء من صلاة الليل جالساً حتى إذا كَبّرَ قرأ جالساً حتى إذا بقي عليه من السورة ثلاثون أو أربعون آية قام فقرأهن ثم ركع“(143).
وعن حفصة – رضي الله عنها- قالت: ”ما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى في سبحته قاعداً حتى كان قبل وفاته بعام، فكان يصلي في سبحته قاعداً، وكان يقرأ بالسورة فيرتِّلها حتى تكون أطول من أطول منها“(144).
وصلاة المسلم قائماً أفضل عند القدرة؛ لحديث عبد الله بن عمرو – رضي الله عنهما- يرفعه: ”صلاة الرجل قاعداً نصف الصلاة“(145)، ولحديث عمران ابن حصين – رضي الله عنهما- قال: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن صلاة الرجل قاعداً فقال: ”إن صلى قائماً فهو أفضل، ومن صلى قاعداً فله نصف أجر القائم...“(146).
ويستحب لمن صلَّى قاعداً أن يكون مُتربِّعاً في حال مكان القيام؛ لحديث عائشة – رضي الله عنها- قالت: ”رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يصلي متربِّعاً“(147). قال الإمام ابن القيم – رحمه الله-: "كانت صلاته [صلى الله عليه وسلم] بالليل ثلاثة أنواع:
أحدها: وهو أكثرها: صلاته قائماً.
الثاني: أنه كان يصلي قاعداً ويركع قاعداً.
الثالث: أنه كان يقرأ قاعداً، فإذا بقي يسير من قراءته قام فركع قائماً. والأنواع الثلاثة صحَّت عنه [صلى الله عليه وسلم](148).
وسمعت شيخنا الإمام عبد العزيز بن عبد الله بن باز - رحمه الله- يقول: "كانت صلاة النبي عليه الصلاة والسلام بالليل على أنواع أربعة كما هو مجموع روايات عائشة - رضي الله عنها-:
1- يصلي قائماً ويركع قائماً.
2- يصلي وهو قاعد ثم إذا لم يبقَ من القراءة إلا نحوًا من ثلاثين أو أربعين قام فقرأ بها ثم ركع.
3- يصلي وهو قاعد ثم إذا ختم قراءته قام فركع.
4- يصلي وهو جالس، ويركع وهو جالس"(149).