واعلم أن قول عبد اللَّه بن عمرو بن العاص، الذي أنكره عليه معاوية في الحديث المذكور، إنه سيكون ملك من قطحان إذا كان عبد اللَّه بن عمرو رضي اللَّه عنهما يعني به القحطاني الذي صحت الرواية بملكه، فلا وجه لإنكاره لثبوت أمره في الصحيح، من حديث أبي هريرة أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قال: "لا تقوم الساعة حتى يخرج رجل من قحطان يسوق الناس بعصاه" . أخرجه البخاري في "كتاب الفتن" في "باب تغير الزمان حتى يعبدوا الأوثان"، وفي "كتاب المناقب" في "باب ذكر قحطان" . وأخرجه مسلم في "كتاب الفتن وأشراط الساعة" في "باب لا تقوم الساعة حتى يمر الرجل بقبر الرجل فيتمنى أن يكون مكان الميت من البلاء" وهذا القحطاني لم يعرف اسمه عند الأكثرين . وقال بعض العلماء اسمه جهجاه . وقال بعضهم: اسمه شعيب بن صالح . وقال ابن حجر في الكلام على حديث القطحاني هذا ما نصه: وقد تقدم في الحج أن البيت يحج بعد خروج يأجوج ومأجوج: وتقدم الجمع بينه وبين حديث: "لا تقوم الساعة حتى لا يحج البيت . وأن الكعبة يخربها ذو السويقتين من الحبشة" فينتظم من ذلك أن الحبشة إذا خربت البيت خرج عليهم القحطاني فأهلكهم، وأن المؤمنين قبل ذلك يحجون في زمن عيسى بعد خروج يأجوج ومأجوج وهلاكهم، وأن الريح التي تقبض أرواح المؤمنين تبدأ بمن بقي بعد عيسى ويتأخر أهل اليمن بعدها .
ويمكن أن يكون هذا مما يفسر به قوله: "الإيمانُ يمانٍ" أي: يتأخر الإيمان بها بعد فقده من جميع الأرض . وقد أخرج مسلم حديث القحطاني عقب حديث تخريب الكعبة ذو السويقتين فلعله رمز إلى هذا. انتهى منه بلفظه واللَّه أعلم، ونسبة العلم إليه أسلم .
الثاني: من شروط الإمام الأعظم: كونه ذكرًا ولا خلاف في ذلك بين العلماء، ويدل له ما ثبت في "صحيح البخاري" وغيره من حديث أبي بكر رضي اللَّه عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم لما بلغه أن فارسًا ملّكوا ابنة كسرى قال: "لَنْ يفلح قوم ولّوا أمرهم امرأة" . الثالث: من شروط الإمام الأعظم كونه حرًّا . فلا يجوز أن يكون عبدًا، ولا خلاف في هذا بين العلماء .
فإن قيل: ورد في الصحيح ما يدل على جواز إمامة العبد . فقد أخرج البخاري في (صحيحه) من حديث أنس بن مالك رضي اللَّه عنه قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "اسمعوا وأطيعوا، وإن استعمل عليكم عبد حبشي كأن رأسه زبيبة " .
ولمسلم من حديث أم الحصين: اسمعوا وأطيعوا ولو استعمل عليكم عبد يقودكم بكتاب اللَّه .
ولمسلم أيضًا من حديث أبي ذر رضي اللَّه عنه أوصاني خليلي أن أطيع وأسمع، وإن كان عبدًا حبشيًا مجدع الأطراف . فالجواب من أوجه:
الأول: أنه قد يضرب المثل بما لا يقع في الوجود؛ فإطلاق العبد الحبشي لأجل المبالغة في الأمر بالطاعة، وإن كان لا يتصور شرعًا أن يلي ذلك، ذكر ابن حجر هذا الجواب عن الخطابي، ويشبه هذا الوجه قوله تعالى: {قُلْ إِن كَانَ لِلرَّحْمَنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعَابِدِينَ} على أحد التفسيرات .
الوجه الثاني: أن المراد باستعمال العبد الحبشي أن يكون مؤمرًا من جهة الإمام الأعظم على بعض البلاد وهو أظهرها، فليس هو الإمام الأعظم . الوجه الثالث: أن يكون أطلق عليه اسم العبد؛ نظرًا لاتصافه بذلك سابقًا مع أنه وقت التولية حر، ونظيره إطلاق اليتم على البالغ باعتبار اتصافه به سابقًا في قوله تعالى: {وَآتُواْ الْيَتَامَى أَمْوَالَهُمْ}، وهذا كله فيما يكون بطريق الاختيار . أما لو تغلب عبد حقيقة بالقوة فإن طاعته تجب؛ إخمادًا للفتنة وصونًا للدماء ما لم يأمر بمعصية كما تقدمت الإشارة إليه .
والمراد بالزبيبة في هذا الحديث، واحدة الزبيب المأكول المعروف، الكائن من العنب إذا جف، والمقصود من التشبيه: الت.. وتقبيح الصورة؛ لأن السمع والطاعة إذا وجبا لمن كان كذلك دل ذلك على الوجوب على كل حال إلا في المعصية كما يأتي ويشبه قوله صلى الله عليه وسلم: " كأنه زبيبة " . قول الشاعر يهجو شخصًا أسود: دنس الثياب كأن فروة رأسه غرست فأنبت جانباها فلفلا
الرابع: من شروطه أن يكون بالغًا . فلا تجوز إمامة الصبي إجماعًا لعدم قدرته على القيام بأعباء الخلافة .
الخامس: أن يكون عاقلاً فلا تجوز إمامة المجنون ولا المعتوه، وهذا لا نزاع فيه .
السادس: أن يكون عدلاً فلا تجوز إمامة فاسق، واستدل عليه بعض العلماء بقوله تعالى: {وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِن ذُرِّيَّتِي قَالَ لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ}، ويدخل في اشتراط العدالة اشتراط الإسلام؛ لأن العدل لا يكون غير مسلم .
السابع: أن يكون ممن يصلح أن يكون قاضيًا من قضاة المسلمين، مجتهدًا يمكنه الاستغناء عن استفتاء غيره في الحوادث .
الثامن: أن يكون سليم الأعضاء غير زمن ولا أعمى ونحو ذلك، ويدل لهذين الشرطين الأخيرين، أعني: العلم وسلامة الجسم قوله تعالى في طالوت: {إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ وَاللَّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَن يَشَاء وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} .
التاسع: أن يكون ذا خبرة ورأي حصيف بأمر الحرب، وتدبير الجيوش، وسد الثغور، وحماية بيضة المسلمين، وردع الأمة، والانتقام من الظالم، والأخذ للمظلوم . كما قال لقيط الإيادي: وقلدوا أمركم للَّه دركم رحب الذراع بأمر الحرب مطلعا
العاشر: أن يكون ممن لا تلحقه رقة في إقامة الحدود، ولا فزع من ضرب الرقاب، ولا قطع الأعضاء، ويدل ذلك إجماع الصحابة رضي اللَّه عنهم على أن الإمام لا بد أن يكون كذلك . قاله القرطبي .
مسـائــل:
الأولى: إذا طرأ على الإمام الأعظم فسق أو دعوة إلى بدعة . هل يكون ذلك سببًا لعزله والقيام عليه أو لا ؟
قال بعض العلماء: إذا صار فاسقًا أو داعيًا إلى بدعة جاز القيام عليه لخلعه، والتحقيق الذي لا شك فيه أنه لا يجوز القيام عليه لخلعه إلا إذا ارتكب كفرًا بوّاحًا عليه من اللَّه برهان .
فقد أخرج الشيخان في "صحيحيهما"، عن عبادة بن الصامت رضي اللَّه عنه قال: بايعنا رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم على السمع والطاعة في منشطنا ومكرهنا، وعسرنا ويسرنا، وأثرة علينا، وأن لا ننازع الأمر أهله . قال: "إلا أن تروا كفرًا بواحًا عندكم فيه من اللَّه برهان" .
وفي "صحيح مسلم"، من حديث عوف بن مالك الأشجعي رضي اللَّه عنه قال: سمعت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يقول: "خيار أئمتكم الذين تحبونهم ويحبونكم، وتصلّون عليهم ويصلّون عليكم، وشرار أئمتكم الذين تبغضونهم ويبغضونكم، وتلعنونهم ويلعنونكم " قالوا: قلنا يا رسول اللَّه أفلا ننابذهم عند ذلك؟ قال: "لا ما أقاموا فيكم الصلاة، لا ما أقاموا فيكم الصلاة، إلاّ من ولي عليه والٍ فرآه يأتي شيئًا من معصية اللَّه فليكره ما يأتي من معصية اللَّه، ولا ينزعن يدًا من طاعة" .
وفي "صحيح مسلم"، أيضًا: من حديث أم سلمة رضي اللَّه عنها أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قال: " ستكون أمراء فتعرفون وتنكرون، فمن عرف بريء، ومن أنكر سلم، ولكن من رضى وتابع" . قالوا: يا رسول اللَّه أفلا نقاتلهم ؟ قال: " لا ما صلّوا " .
وأخرج الشيخان في " صحيحيهما " من حديث ابن عباس رضي اللَّه عنهما قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: " من رأى من أميره شيئًا فكرهه فليصبر؛ فإنه ليس أحد يفارق الجماعة شبرًا فيموت، إلا مات ميتة جاهلية " .
وأخرج مسلم في " صحيحه "، من حديث ابن عمر رضي اللَّه عنهما أنه سمع رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، يقول: " من خلع يدًا من طاعة لقي اللَّه يوم القيامة لا حجة له، ومن مات وليس في عنقه بيعة مات ميتة جاهلية "، والأحاديث في هذا كثيرة .
فهذه النصوص تدل على منع القيام عليه، ولو كان مرتكبًا لما لا يجوز،
إلا إذا ارتكب الكفر الصريح الذي قام البرهان الشرعي من كتاب اللَّه وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، أنه كفر بواح، أي: ظاهر باد لا لبس فيه .
وقد دعا المأمون والمعتصم والواثق إلى بدعة القول: بخلق القرءان وعاقبوا العلماء من أجلها بالقتل والضرب والحبس وأنواع الإهانة، ولم يقل أحد بوجوب الخروج عليهم بسبب ذلك . ودام الأمر بضع عشرة سنة حتى ولي المتوكل الخلافة، فأبطل المحنة، وأمر بإظهار السنّة .
واعلم أنه أجمع جميع المسلمين على أنه لا طاعة لإمام ولا غيره في معصية اللَّه تعالى . وقد جاءت بذلك الأحاديث الصحيحة الصريحة التي لا لبس فيها ولا مطعن، كحديث ابن عمر رضي اللَّه عنهما أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، قال: " السمع والطاعة على المرء المسلم فيما أحب وكره، ما لم يؤمر بمعصية، فإن أمر بمعصية فلا سمع ولا طاعة " أخرجه الشيخان وأبو داود .
وعن علي بن أبي طالب رضي اللَّه عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم، أنه قال في السرية الذين أمرهم أميرهم أن يدخلوا في النار: " لو دخلوها ما خرجوا منها أبدًا؛ إنما الطاعة في المعروف " . وفي الكتاب العزيز: {وَلا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ} .
المسألة الثانية: هل يجوز نصب خليفتين كلاهما مستقل دون الآخر؟ . في ذلك ثلاثة أقوال:
الأول: قول الكرامية بجواز ذلك مطلقًا محتجين بأن عليًّا ومعاوية كانا إمامين واجبي الطاعة كلاهما على من معه، وبأن ذلك يؤدي إلى كون كل واحد منهما أقوم بما لديه وأضبط لما يليه .
وبأنه لما جاز بعث نبيين في عصر واحد ولم يؤد ذلك إلى إبطال النبوة كانت الإمامة أولى . القول الثاني: قول جماهير العلماء من المسلمين: أنه لا يجوز تعدد الإمام الأعظم، بل يجب كونه واحدًا، وأن لا يتولى على قطر من الأقطار إلا أمراؤه المولون من قبله، محتجين بما أخرجه مسلم في "صحيحه" من حديث أبي سعيد الخدري رضي اللَّه عنه قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "إذا بويع لخليفتين فاقتلوا الآخر منهما" .
ولمسلم أيضًا: من حديث عرفجة رضي اللَّه عنه قال: سمعت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يقول: "من أتاكم وأمركم جميع على رجل واحد يريد أن يشق عصاكم أو يفرق جماعتكم فاقتلوه" .
وفي رواية: "فاضربوه بالسيف كائنًا من كان" .
ولمسلم أيضًا من حديث عبد اللَّه بن عمرو بن العاص رضي اللَّه عنهما: " ومن بايع إمامًا فأعطاه صفقة يده وثمرة قلبه فليطعه إن استطاع، فإن جاء آخر ينازعه فاضربوا عنق الآخر "، ثم قال: سمعته أذناي من رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ووعاه قلبي .
وأبطلوا احتجاج الكرامية بأن معاوية أيام نزاعه مع عليّ لم يدع الإمامة لنفسه، وإنما ادعى ولاية الشام بتولية من قبله من الأئمة، ويدل لذلك:
إجماع الأمة في عصرهما على أن الإمام أحدهما فقط لا كل منهما .
وأن الاستدلال بكون كل منهما أقوم بما لديه وأضبط لما يليه، وبجواز بعث نبيين في وقت واحد، يرده قوله صلى الله عليه وسلم: "فاقتلوا الآخر منهما"؛ ولأن نصب خليفتين يؤدي إلى الشقاق وحدوث الفتن .
القول الثالث: التفصيل فيمنع نصب إمامين في البلد الواحد والبلاد المتقاربة، ويجوز في الأقطار المتنائية كالأندلس وخراسان . قال القرطبي في تفسير هذه الآية الكريمة ما نصه: لكن إن تباعدت الأقطار وتباينت كالأندلس وخراسان، جاز ذلك على ما يأتي بيانه إن شاء اللَّه تعالى . انتهى منه بلفظه .
والمشار إليه في كلامه: نصب خليفتين، وممن قال بجواز ذلك:
الأستاذ أبو إسحاق كما نقله عنه إمام الحرمين . ونقله عنه ابن كثير والقرطبي في تفسير هذه الآية الكريمة .
وقال ابن كثير: قلت: وهذا يشبه حال الخلفاء: بني العباس بالعراق، والفاطميين بمصر، والأمويين بالمغرب .
المسألة الثالثة: هل للإمام أن يعزل نفسه ؟ .
قال بعض العلماء: له ذلك . قال القرطبي: والدليل على أن له عزل نفسه قول أبي بكر الصدّيق رضي اللَّه عنه: أقيلوني أقيلوني، وقول الصحابة رضي اللَّه عنهم: لا نقيلك ولا نستقيلك . قدمك رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم لديننا فمن ذا يؤخرك ؟ رضيك رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم لديننا أفلا نرضاك ؟ .
قال: فلو لم يكن له ذلك لأنكرت الصحابة ذلك عليه . ولقالت له ليس لك أن تقول هذا .
وقال بعض العلماء: ليس له عزل نفسه؛ لأنه تقلد حقوق المسلمين فليس له التخلي عنها .
قال مقيده عفا اللَّه عنه إن كان عزله لنفسه لموجب يقتضي ذلك كإخماد فتنة كانت ستشتعل لو لم يعزل نفسه، أو لعلمه من نفسه العجز عن القيام بأعباء الخلافة، فلا نزاع في جواز عزل نفسه . ولذا أجمع جميع المسلمين على الثناء على سبط رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، الحسن بن عليّ رضي اللَّه عنهما، بعزل نفسه وتسليمه الأمر إلى معاوية، بعد أن بايعه أهل العراق؛ حقنًا لدماء المسلمين وأثنى عليه بذلك قبل وقوعه، جده رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم بقوله: " إن ابني هذا سيد، ولعل اللَّه أن يصلح به بين فئتين من المسلمين " . أخرجه البخاري وغيره من حديث أبي بكر رضي اللَّه عنه .
المسألة الرابعة: هل يجب الإشهاد على عقد الإمامة ؟ .
قال بعض العلماء: لا يجب؛ لأن إيجاب الإشهاد يحتاج إلى دليل من النقل . وهذا لا دليل عليه منه .
وقال بعض العلماء: يجب الإشهاد عليه؛ لئلا يدعي مدع أن الإمامة عقدت له سرًّا، فيؤدي ذلك إلى الشقاق والفتنة .
والذين قالوا بوجوب الإشهاد على عقد الإمامة، قالوا: يكفي شاهدان خلافًا للجبائي في اشتراطه أربعة شهود وعاقدًا ومعقودًا له، مستنبطًا ذلك من ترك عمر الأمر شورى بين ستة فوقع الأمر على عاقد، وهو عبد الرحمان بن عوف ومعقود له، وهو عثمان وبقي الأربعة الآخرون شهودًا، ولا يخفى ضعف هذا الاستنباط كما نبه عليه القرطبي وابن كثير والعلم عند اللَّه تعالى
{وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلاَئِكَةِ فَقَالَ أَنبِئُونِي بِأَسْمَاء هَؤُلاء إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ قَالُواْ سُبْحَانَكَ لاَ عِلْمَ لَنَا إِلاَّ مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ قَالَ يَا آدَمُ أَنبِئْهُم بِأَسْمَآئِهِمْ فَلَمَّا أَنبَأَهُمْ بِأَسْمَآئِهِمْ قَالَ أَلَمْ أَقُل لَّكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنتُمْ تَكْتُمُونَ وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلاَئِكَةِ اسْجُدُواْ لآدَمَ فَسَجَدُواْ إِلاَّ إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ وَقُلْنَا يَا آدَمُ اسْكُنْ أَنتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلاَ مِنْهَا رَغَداً حَيْثُ شِئْتُمَا وَلاَ تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الْظَّالِمِينَ فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ عَنْهَا فَأَخْرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِ وَقُلْنَا اهْبِطُواْ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ}
ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلَـائِكَةِ يعني مسميات الأسماء لا الأسماء كما يتوهم من ظاهر الآية .
وقد أشار إلى أنها المسميات بقوله: {أَنبِئُونِي بِأَسْمَاء هَؤُلاء} الآية، كما هو ظاهر .
{وَمَا كُنتُمْ تَكْتُمُونَ} لم يبيّن هنا هذا الذي كانوا يكتمون، وقد قال بعض العلماء: هو ما كان يضمره إبليس من الكبر، وعلى هذا القول فقد بيّنه قوله تعالى: {إِلاَّ إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ} .
{وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلاَئِكَةِ اسْجُدُواْ لآدَمَ} وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَـائِكَةِ اسْجُدُواْ لاًّدَمَ لم يبيّن هنا هل قال لهم ذلك قبل خلق ءَادم أو بعد خلقه ؟ وقد صرح في سورة "الحجر" و "صا" بأنه قال لهم ذلك قبل خلق ءَادم . فقال في "الحجر": {وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِّن صَلْصَالٍ مِّنْ حَمَإٍ مَّسْنُونٍ فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي فَقَعُواْ لَهُ سَاجِدِينَ}، وقال في سورة "صا": {إِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِن طِينٍ فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ} .
{إِلاَّ إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ} لم يبيّن هنا موجب استكباره في زعمه، ولكنه بيّنه في مواضع أُخر كقوله: {قَالَ أَنَاْ خَيْرٌ مِّنْهُ خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ وَخَلَقْتَهُ مِن طِينٍ}، وقوله: {قَالَ لَمْ أَكُن لِّأَسْجُدَ لِبَشَرٍ خَلَقْتَهُ مِن صَلْصَالٍ مِّنْ حَمَإٍ مَّسْنُونٍ} .
تنبيــه
مثل قياس إبليس نفسه على عنصره، الذي هو النار وقياسه ءادم على عنصره، الذي هو الطين واستنتاجه من ذلك أنه خير من ءادم . ولا ينبغي أن يؤمر بالسجود لمن هو خير منه، مع وجود النص الصريح الذي هو قوله تعالى: {اسجدوا لآدم} يسمى في اصطلاح الأصوليين فاسد الاعتبار . وإليه الإشارة بقول صاحب "مراقي السعود ":) والخلف للنص أو إجماع دعا فساد الاعتبار كل من وعى فكل من رد نصوص الوحي بالأقيسة فسلفه في ذلك إبليس وقياس إبليس هذا لعنه اللَّه باطل من ثلاثة أوجه:
الأول: أنه فاسد الاعتبار؛ لمخالفة النص الصريح كما تقدم قريبًا .
الثاني: أنا لا نسلم أن النار خير من الطين، بل الطين خير من النار؛ لأن طبيعتها الخفة والطيش والإفساد والتفريق، وطبيعته الرزانة والإصلاح فتودعه الحبة فيعطيكها سنبلة والنواة فيعطيكها نخلة .
وإذا أردت أن تعرف قدر الطين فانظر إلى الرياض الناضرة، وما فيها من الثمار اللذيذة، والأزهار الجميلة، والروائح الطيبة . تعلم أن الطين خير من النار .
الثالث: أنّا لو سلمنا تسليمًا جدليًّا أن النار خير من الطين، فإنه لا يلزم من ذلك أن إبليس خير من ءادم؛ لأن شرف الأصل لا يقتضي شرف الفرع، بل قد يكون الأصل رفيعًا الفرع وضيعًا، كما قال الشاعر: إذا افتخرت بآباء لهم شرف قلنا صدقت ولكن بئس ما ولدوا
وقال الآخر: وما ينفع الأصل من هاشم إذا كانت النفس من باهلةْ
{فَتَلَقَّى آدَمُ مِن رَّبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ قُلْنَا اهْبِطُواْ مِنْهَا جَمِيعاً فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِّنِّي هُدًى فَمَن تَبِعَ هُدَايَ فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ وَالَّذِينَ كَفَرواْ وَكَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ}
فَتَلَقَّىا ءَادَمُ مِن رَّبِّهِ كَلِمَاتٍ لم يبيّن هنا ما هذه الكلمات، ولكنه بيّنها في سورة "الأعراف"، بقوله: {قَالاَ رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا وَإِن لَّمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} .
{يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُواْ نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَوْفُواْ بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ وَآمِنُواْ بِمَا أَنزَلْتُ مُصَدِّقاً لِّمَا مَعَكُمْ وَلاَ تَكُونُواْ أَوَّلَ كَافِرٍ بِهِ وَلاَ تَشْتَرُواْ بِآيَاتِي ثَمَناً قَلِيلاً وَإِيَّايَ فَاتَّقُونِ}
يَـابَنِىا إِسْرَاءِيلَ اذْكُرُواْ نِعْمَتِيَ الَّتِىا أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ لم يبيّن هنا ما هذه النعمة التي أنعمها عليهم، ولكنه بيّنها في آيات أُخر، كقوله: {وَظَلَّلْنَا عَلَيْكُمُ الْغَمَامَ وَأَنزَلْنَا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى}.
وقوله: {وَإِذْ نَجَّيْنَاكُم مِّنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوَءَ الْعَذَابِ} الآية وقوله: {وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الأَرْضِ وَنُرِي فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُم مَّا كَانُوا يَحْذَرُونَ}، إلى غير ذلك من الآيات .
{وَأَوْفُواْ بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ} لم يبيّن هنا ما عهده وما عهدهم، ولكنه بيّن ذلك في مواضع أُخر كقوله: {وَقَالَ اللَّهُ إِنِّي مَعَكُمْ لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلاَةَ وَآتَيْتُمُ الزَّكَاةَ وَآمَنتُم بِرُسُلِي وَعَزَّرْتُمُوهُمْ وَأَقْرَضْتُمُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا لأُكَفِّرَنَّ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ}، فعهدهم هو المذكور في قوله: {لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلاَةَ وَآتَيْتُمُ الزَّكَاةَ وَآمَنتُم بِرُسُلِي وَعَزَّرْتُمُوهُمْ وَأَقْرَضْتُمُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا}، وعهده هو المذكور في قوله: {لأُكَفِّرَنَّ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ}