{لَّيْسَ الْبِرَّ أَن تُوَلُّواْ وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَالْمَلآئِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّآئِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُواْ وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاء والضَّرَّاء وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالأُنثَى بِالأُنثَى فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاء إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ ذَلِكَ تَخْفِيفٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَاْ أُولِيْ الأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِن تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالأقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ فَمَن بَدَّلَهُ بَعْدَمَا سَمِعَهُ فَإِنَّمَا إِثْمُهُ عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ فَمَنْ خَافَ مِن مُّوصٍ جَنَفًا أَوْ إِثْمًا فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ فَلاَ إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ}
، وَءَاتَى الْمَالَ عَلَىا حُبِّهِ لم يبيّن هنا هل هذا المصدر مضاف إلى فاعله فيكون الضمير عائدًا إلى {مَنْ أَتَى الْمَالَ}، والمفعول محذوفًا، أو مضاف إلى مفعوله فيكون الضمير عائدًا إلى المال ولكنه ذكر في موضع آخر ما يدل على أن المصدر مضاف إلى فاعله، وأن المعنى {عَلَىا حُبّهِ}، أي حب مؤتي المال لذلك المال وهو قوله تعالى: {لَن تَنَالُواْ الْبِرَّ حَتَّى تُنفِقُواْ مِمَّا تُحِبُّونَ}. ولا يخفى أن بين القولين تلازمًا في المعنى.
{وَحِينَ الْبَأْسِ}، لم يبيّن هنا ما المراد بالبأس ؟.
ولكنه أشار في موضع آخر إلى أن البأس القتال، وهو قوله: {قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الْمُعَوِّقِينَ مِنكُمْ وَالْقَائِلِينَ لإِخْوَانِهِمْ هَلُمَّ إِلَيْنَا وَلا يَأْتُونَ الْبَأْسَ إِلاَّ قَلِيلاً}. كما هو ظاهر من سياق الكلام.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ أَيَّامًا مَّعْدُودَاتٍ فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ فَمَن تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَّهُ وَأَن تَصُومُواْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ}. قال بعض العلماء هي ثلاثة من كل شهر، وعاشوراء.
وقال بعض العلماء هي رمضان، وعلى هذا القول فقد بيّنها تعالى بقوله: {شَهْرُ رَمَضَانَ}.
{شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِيَ أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِّنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَن كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُواْ الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُواْ اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ}
، شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِىا أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ لم يبيّن هنا هل أنزل في الليل منه أو النهار ؟ ولكنه بيّن في غير هذا الموضع أنه أنزل في ليلة القدر من رمضان وذلك في قوله: {إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ}، وقوله: {إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُّبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنذِرِينَ}؛ لأن الليلة المباركة هي ليلة القدر على التحقيق وفي معنى إنزاله وجهان:
الأول: أنه أنزل فيها جملة إلى السماء الدنيا، كما ثبت عن ابن عباس رضي اللَّه عنهما.
والثاني: أن معنى إنزاله فيها ابتداء نزوله كما قال به بعضهم.
{وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُواْ لِي وَلْيُؤْمِنُواْ بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ}
، وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ ذكر في هذه الآية أنه جلّ وعلا قريب يجيب دعوة الداعي وبيّن في آية أخرى تعليق ذلك على مشيئته جلّ وعلا وهي قوله: {بَلْ إِيَّاهُ تَدْعُونَ فَيَكْشِفُ مَا تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِنْ شَاء وَتَنسَوْنَ مَا تُشْرِكُونَ}.
وقال بعضهم التعليق بالمشيئة في دعاء الكفار كما هو ظاهر سياق الآية، والوعد المطلق في دعاء المؤمنين. وعليه فدعاؤهم لا يرد، إما أن يعطوا ما سألوا أو يدخر لهم خير منه أو يدفع عنهم من السوء بقدره.
وقال بعض العلماء: المراد بالدعاء العبادة وبالإجابة الثواب، وعليه فلا إشكال.
{أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَآئِكُمْ هُنَّ لِبَاسٌ لَّكُمْ وَأَنتُمْ لِبَاسٌ لَّهُنَّ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنتُمْ تَخْتانُونَ أَنفُسَكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنكُمْ فَالآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُواْ مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَكُلُواْ وَاشْرَبُواْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّواْ الصِّيَامَ إِلَى الَّليْلِ وَلاَ تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلاَ تَقْرَبُوهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ وَلاَ تَأْكُلُواْ أَمْوَالَكُم بَيْنَكُم بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُواْ بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُواْ فَرِيقًا مِّنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالإِثْمِ وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ}
، وَاشْرَبُواْ حَتَّىا يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ بينه قوله: {مِنَ الْفَجْرِ}، والعرب تسمى ضوء الصبح خيطًا، وظلام الليل المختلط به خيطًا، ومنه قول أبي دواد الإيادي:
فلما أضاءت لنا سدفة ** ولاح من الصبح خيط أنارا
وقول الآخر:
الخيط الابيض ضوء الصبح منفلق والخيط الاسود جنح الليل مكتوم
{يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوْاْ الْبُيُوتَ مِن ظُهُورِهَا وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقَى وَأْتُواْ الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا وَاتَّقُواْ اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ}
، وَلَـاكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقَىا لم يصرح هنا بالمراد بمن اتقى، ولكنه بينه بقوله: {لَّيْسَ الْبِرَّ أَن تُوَلُّواْ وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَالْمَلآئِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّآئِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُواْ وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاء والضَّرَّاء وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ}، والكلام في الآية على حذف مضاف أي ولكن ذا البر من اتقى، وقيل ولكن البر برّ من اتقى، ونظير الآية في ذلك من كلام العرب قول الخنساء:
لا تسأم الدهر منه كلما ذكرت فإنما هي إقبال وإدبار
أي ذات إقبال، وقول الشاعر:
وكيف تواصل من أصبحت خلالته كأبي مرحب
أي كخلالة أبي مرحب. وقول الآخر:
لعمرك ما الفتيان أن تنبت اللحى ولكنما الفتيان كل فتى ندى
أي ليس الفتيان فتيان نبات اللحى.
{وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأَخْرِجُوهُم مِّنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ وَلاَ تُقَاتِلُوهُمْ عِندَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِن قَاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ كَذَلِكَ جَزَاء الْكَافِرِينَ فَإِنِ انتَهَوْاْ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلّهِ فَإِنِ انتَهَواْ فَلاَ عُدْوَانَ إِلاَّ عَلَى الظَّالِمِينَ الشَّهْرُ الْحَرَامُ بِالشَّهْرِ الْحَرَامِ وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُواْ عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ وَاتَّقُواْ اللَّهَ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ وَأَنفِقُواْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلاَ تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ وَأَحْسِنُوَاْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ}
، وَقَـاتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَـاتِلُونَكُمْ فيه ثلاثة أوجه للعلماء:
الأول: أن المراد بالذين يقاتلونكم من شأنهم القتال، أي دون غيرهم، كالنساء، والصبيان، والشيوخ الفانية، وأصحاب الصوامع.
الثاني: أنها منسوخة بآيات السيف الدّالة على قتالهم مطلقًا.
الثالث: أن المراد بالآية تهييج المسلمين وتحريضهم على قتال الكفار، فكأنه يقول لهم: هؤلاء الذين أمرتكم بقتالهم هم خصومكم، وأعداؤكم الذين يقاتلونكم، وأظهرها الأول وعلى القول الثالث فالمعنى يبينه ويشهد له قوله تعالى: {وَقَاتِلُواْ الْمُشْرِكِينَ كَآفَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَآفَّةً وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ}.
{وَأَتِمُّواْ الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلّهِ فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ وَلاَ تَحْلِقُواْ رُؤُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضاً أَوْ بِهِ أَذًى مِّن رَّأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِّن صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ فَإِذَا أَمِنتُمْ فَمَن تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ ذَلِكَ لِمَن لَّمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَاتَّقُواْ اللَّهَ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ}
. فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْىِ اختلف العلماء في المراد بالإحصار في هذه الآية الكريمة فقال قوم: هو صدّ العدو المحرم ومنعه إياه من الطواف بالبيت.
وقال قوم: المراد به حبس المحرم بسبب مرض ونحوه.
وقال قوم: المراد به ما يشمل الجميع من عدو ومرض ونحو ذلك.
ولكن قوله تعالى بعد هذا: {فَإِذَا أَمِنتُمْ}، يشير إلى أن المراد بالإحصار هنا صد العدو المحرم؛ لأن الأمن إذا أطلق في لغة العرب انصرف إلى الأمن من الخوف لا إلى الشفاء من المرض، ونحو ذلك، ويؤيّده أنه لم يذكر الشىء الذي منه الأمن، فدلّ على أن المراد به ما تقدم من الإحصار، فثبت أنه الخوف من العدوّ، فما أجاب به بعض العلماء من أن الأمن يطلق على الأمن من المرض، كما في حديث " من سبق العاطس بالحمد أمن من الشوص، واللوص، والعلوص "، أخرجه ابن ماجه في سننه فهو ظاهر السقوط، لأن الأمن فيه مقيد بكونه من المرض، فلو أطلق لانصرف إلى الأمن من الخوف. وقد يجاب أيضًا بأنه يخاف وقوع المذكور من الشوص الذي هو وجع السن، واللوص الذي هو وجه الأذن، والعلوص الذي هو وجع البطن؛ لأنه قبل وقوعها به يطلق عليه أنه خائف من وقوعها؛ فإذا أمن من وقوعها به فقد أمن من خوف.
أما لو كانت وقعت به بالفعل فلا يحسن أن يقال أمن منها؛ لأن الخوف في لغة العرب هو الغم من أمر مستقبل، لا واقع بالفعل، فدلّ هذا على أن زعم إمكان إطلاق الأمن على الشفاء من المرض خلاف الظاهر. وحاصل تحرير هذه المسألة في مبحثين:
الأول: في معنى الإحصار في اللغة العربية.
الثاني: في تحقيق المراد به في الآية الكريمة وأقوال العلماء وأدلتها في ذلك، ونحن نبيّن ذلك كله إن شاء اللَّه تعالى.
اعلم أن أكثر علماء العربية يقولون: إن الإحصار هو ما كان عن مرض أو نحوه، قالوا: تقول العرب: أحصره المرض يُحصِره بضم الياء وكسر الصاد إحصارًا، وأما ما كان من العدو فهو الحصر، تقول العرب حصر العدو يَحصُره بفتح الياء وضم الصاد حَصْرًا بفتح فسكون، ومن إطلاق الحصر في القرءان على ما كان من العدو قوله تعالى: {وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ}، ومن إطلاق الإحصار على غير العدوّ كما ذكرنا عن علماء العربية.
{لِلْفُقَرَاء الَّذِينَ أُحصِرُواْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ}. وقول ابن ميادة: وما هجر ليلى أن تكون تباعدت عليك ولا أن أحصرتك شغول
وعكس بعض علماء العربية.
فقال: الإحصار من العدو، والحصر من المرض، قاله ابن فارس في "المجمل"، نقله عنه القرطبي. ونقل البغوي نحوه عن ثعلب.
وقال جماعة من علماء العربية: إن الإحصار يستعمل في الجميع، وكذلك الحصر، وممن قال باستعمال الإحصار في الجميع الفرّاء، وممن قال: بأن الحصر والإحصار يستعملان في الجميع أبو نصر القشيري.
قال مقيده عفا اللَّه عنه لا شك في جواز إطلاق الإحصار على ما كان من العدوّ كما سترى تحقيقه إن شاء اللَّه، هذا حاصل كلام أهل العربية في معنى الإحصار. وأما المراد به في الآية الكريمة فقد اختلف فيه العلماء على ثلاثة أقوال:
الأول: أن المراد به حصر العدوّ خاصة دون المرض ونحوه، وهذا قول ابن عباس وابن عمر وأنس وابن الزبير وهو قول سعيد بن المسيب، وسعيد بن جبير رضي اللَّه عنهم وبه قال مروان وإسحاق وهو الرواية المشهورة الصحيحة عن أحمد بن حنبل، وهو مذهب مالك والشافعي رحمهم اللَّه.
وعلى هذا القول أن المراد بالإحصار ما كان من العدوّ خاصة، فمن أحصر بمرض ونحوه لا يجوز له التحلل حتى يبرأ من مرضه، ويطوف بالبيت ويسعى، فيكون متحلّلاً بعمرة، وحجة هذا القول متركبة من أمرين:
الأول: أن الآية الكريمة التي هي قوله تعالى: {فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْىِ}، نزلت في صد المشركين النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه وهم محرمون بعمرة عام الحديبية عام ستّ بإطباق العلماء.
وقد تقرر في الأصول أن صورة سبب النزول قطعية الدخول فلا يمكن إخراجها بمخصص، فشمول الآية الكريمة لإحصار العدو، الذي هو سبب نزولها قطعي فلا يمكن إخراجه من الآية بوجه؛ وروي عن مالك رحمه اللَّه أن صورة سبب النزول ظنية الدخول لا قطعيته، وهو خلاف قول الجمهور وإليه أشار في "مراقي السعود" بقوله: واجزم بإدخال ذوات السبب وارو عن الإمام ظنا تصب
وبهذا تعلم أن إطلاق الإحصار بصيغة الرباعي على ما كان من عدو صحيح في اللغة العربية بلا شك كما ترى، وأنه نزل به القرءان العظيم الذي هو في أعلى درجات الفصاحة والإعجاز.
الأمر الثاني: ما ورد من الآثار في أن المحصر بمرض ونحوه لا يتحلّل إلا بالطواف والسعي، فمن ذلك ما رواه الشافعي في "مسنده"، والبيهقي عن ابن عباس أنه قال: لا حصر إلا حصر العدوّ.
قال النووي في "شرح المهذب": إسناده صحيح على شرط البخاري ومسلم، وصححه أيضًا ابن حجر، ومن ذلك ما رواه البخاري والنسائي عن ابن عمر أنه كان يقول: " أليس حسبكم سنة رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم إن حبس أحدكم عن الحج طاف بالبيت، وبالصفا والمروة، ثم يحل من كل شىء حتى يحج عامًا قابلاً فيهدي أو يصوم إن لم يجد هديًا " ومن ذلك ما رواه مالك في "الموطأ"، والبيهقي عن ابن عمر أنه قال: " المحصر بمرض لا يحل حتى يطوف بالبيت، ويسعى بين الصفا والمروة، فإذا اضطر إلى لبس شىء من الثياب التي لا بدّ له منها أو الدواء صنع ذلك وافتدى " ومن ذلك ما رواه مالك في "الموطأ". والبيهقي أيضًا عن أيوب السختياني عن رجل من أهل البصرة كان قديمًا أنه قال: خرجت إلى مكة حتى إذا كنت ببعض الطريق كسرت فخذي، فأرسلت إلى مكة وبها عبد اللَّه بن عباس، وعبد اللَّه بن عمر، والناس فلم يرخص لي أحد أن أُحل، فأقمت على ذلك الماء سبعة أشهر حتى أحللت بعمرة. والرجل البصري المذكور الذي أبهمه مالك. قال ابن عبد البر: هو أبو قلابة عبد اللَّه بن زيد الجرمي، شيخ أيوب ومعلمه كما رواه حماد بن زيد عن أيوب عن أبي قلابة،
ورواه ابن جرير من طرق، وسمى الرجل يزيد بن عبد اللَّه بن الشخير.
ومن ذلك ما رواه مالك في "الموطأ" والبيهقي أيضًا عن سليمان بن يسار: " أن سعيد بن حزابة المخزومي صرع ببعض طريق مكة وهو محرم، فسأل، على الماء الذي كان عليه، عن العلماء، فوجد عبد اللَّه بن عمر، وعبد اللَّه بن الزبير، ومروان بن الحكم، فذكر لهم الذي عرض له فكُلُّهُم أمره أن يتداوى بما لا بد له منه، ويفتدي فإذا صح اعتمر فحل من إحرامه، ثم عليه حج قابل ويهدي ما استيسر من الهدي ".
قال مالك: وعلى هذا الأمر عندنا فيمن أحصر بغير عدو، وقد أمر عمر بن الخطاب أبا أيوب الأنصاري، وهبار بن الأسود حين فاتهما الحج وأتيا يوم النحر أن يحلا بعمرة ثم يرجعا حلالاً، ثم يحجان عامًا قابلاً ويهديان، فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجع إلى أهله.
ومن ذلك ما رواه مالك في "الموطأ"، والبيهقي أيضًا عن عائشة رضي اللَّه عنها أنها كانت تقول: "المحرم لا يحله إلا البيت" والظاهر أنها تعني غير المحصر بعدو، كما جزم به الزرقاني في "شرح الموطأ"، هذا هو حاصل أدلة القول بأن المراد بالإحصار في الآية هو ما كان من خصوص العدو دون ما كان من مرض ونحوه.
القول الثاني: في المراد بالإحصار أنه يشمل ما كان من عدو ونحوه، وما كان من مرض ونحوه، من جميع العوائق المانعة من الوصول إلى الحرم. وممن قال بهذا القول ابن مسعود، ومجاهد، وعطاء، وقتادة، وعروة بن الزبير، وإبراهيم النخعي، وعلقمة، والثوري، والحسن، وأبو ثور، وداود وهو مذهب أبي حنيفة. وحجة هذا القول من جهة شموله لإحصار العدوّ قد تقدمت في حجة الذي قبله.
وأما من جهة شموله للإحصار بمرض فهي ما رواه الإمام أحمد وأصحاب السنن الأربعة، وابن خزيمة، والحاكم، والبيهقي عن عكرمة، عن الحجاج بن عمرو الأنصاري رضي اللَّه عنه قال: سمعت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، يقول: "من كسر أو عرج فقد حلّ وعليه حجّة أخرى" فذكرت ذلك لابن عباس وأبي هريرة فقالا: صدق.
وفي رواية لأبي داود وابن ماجه: "من عرج، أو كسر، أو مرض"، فذكر معناه.
وفي رواية ذكرها أحمد في رواية المروزي: "من حبس بكسر أو مرض"، هذا الحديث سكت عليه أبو داود، والمنذري، وحسنه الترمذي.
وقال النووي في "شرح المهذب"، بعد أن ساق حديث عكرمة هذا رواه أبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجه والبيهقي وغيرهم بأسانيد صحيحة، وبهذا تعلم قوة حجة أهل هذا القول، ورد المخالفون الاحتجاج بحديث عكرمة هذا من وجهين:
الأول: ما ذكره البيهقي في "السنن الكبرى"، قال: وقد حمله بعض أهل العلم إن صح على أنه يحل بعد فواته بما يحل به من يفوته الحج بغير مرض. فقد روينا عن ابن عباس ثابتًا عنه، قال: لا حصر إلا حصر عدوّ واللَّه أعلم. انتهى منه بلفظه.