سقوط حكم ابن علي في تونس بهذه السهولة، وبعد هذه الانتفاضة الشعبية
الواسعة، التي شارك فيها كل فئات المجتمع التونسي تقريباً، وأيضاً بهذه
السرعة، يؤكد أن استقرار الأنظمة الحاكمة إذا لم يدعمها حلولٌ للتحديات
الاقتصادية، ويلتفت صنّاع القرار فيها إلى المشاكل المعيشية المتفاقمة
التي يواجهها الإنسان، وعلى رأسها البطالة، وندرة فرص العمل، ومكافحة
الفساد المالي والإداري، فلن يحتاج هذا الاستقرار الهش لأكثر من (شرارة)،
لتعلن انتفاضة الجوع، وغضب الفقراء، (حضورها)، غير عابئة بكل روادع الأمن،
والقوة، والبطش وهيبة النظام؛ وهذا ما حصل في تونس؛ وهو ما يؤكد أن
(شرعية) بقاء الدول واستقرارها واستمرارها هي (شرعية اقتصادية) في الدرجة
الأولى؛ فعندما يجوع الإنسان، وتنسد في وجهه كل أبواب الرزق، وتزداد
الفجوة بين من يملك ومن لا يملك، ويفقد أغلى وأهم ما يملكه الإنسان في
حياته وهو (الأمل)؛ يتحول الوضع المستقر بين ليلة وضحاها إلى كومة من قش
اشتعلت فيها جذوة من نار، ليأتي الحريق على كل شيء؛ ويتحول الإنسان الوديع
المؤمن المسالم إلى وحش يُحطِّم كل شيء يعترض طريقه، ولن تخمد ثورته وغضبه
حتى يتشفّى ممن يعتقد أنهم السبب في كل مآسيه ومعاناته.
ما حصلَ في تونس مرشحٌ لأن يحصل في بعض الدول التي تتفاقم فيها أرقام
البطالة، وتضيق فيها فرص العمل، ويُعشِّش فيها البؤس، ويتلاشى (أمل)
الشباب ذكوراً وإناثاً في أن يجدوا عملاً يقيهم ذل الجوع والحاجة والعوز؛
وفي المقابل لا يجدوا من صنَّاع القرار في بلدانهم من يلتفت إلى معاناتهم.
وأكاد أجزم أن العدوى ستنتشر في كثير من دول المنطقة التي تتفشّى فيها
البطالة ويزدهر فيها الجوع والفقر، انتشار النار في الهشيم.
وكثير من الأنظمة التي تمنع الحوار، وتكمِّم الأفواه، وتصادر حُرية
الصحافة، وتختلق الأعذار لمنع (النقد) تحت أية ذريعة، ويعيث فيها الفساد
بكل أنواعه، وأهمها الفساد المالي والإداري بمعناه الشامل، عادة ما تتفاجأ
بردود الأفعال، فتأخذها الأحداث على حين غرة؛ وفي الوقت ذاته يأخذ صانع
القرار فيها الغرور والتعالي، فيتمادى في العناد، ويفرط في استخدام القوة،
ويبالغ في البطش، ويصرّ على أنَّ الضرب بيدٍ من حديد سيردع جموع الجوعى
والمتذمرين ويجعلهم يرعوون.. وبدلاً من محاصرة المشكلة وهي في بؤرتها
الصغيرة التي بدأت منها، تجده كمن يصب الزيت على النار ليزيد من اشتعالها؛
وعندما يثوب إلى العقل والموضوعية، ويتخلّى عن أسلوب اليد الحديدية، يجد
أن الغاضبين وصلوا إلى نقطة اللا عودة، وتصبح تنازلاته إمعاناً في ضعفه،
فيُدخل نظامه الحاكم، ويدخل معه الدولة إلى المجهول؛ وهو ما وصلت إليه
الأحداث في تونس بعد أن فرَّ رئيسها، وترك وراءه تركة ثقيلة.. حاول ابن
علي أن يتدارك الأمور، وأن يصلح الوضع عندما تأكد أن خيار القوة والبطش لا
قيمة له؛ فوعد بخلق 300 ألف فرصة عمل لاحتواء نسب البطالة المرتفعة لدى
حاملي الشهادات، وأمر بخفض أسعار المواد التموينية، وأطلق حرية النقد
الصحفي، وألغى تكميم الأفواه، ورفعَ حجبَ بعض مواقع الإنترنت التي تنتقد
الأوضاع في تونس، ونحّى المسؤولين عن القمع والبطش في نظامه، و وعد
بمحاكمتهم، وقال إنهم كانوا يحجبون الحقيقة عنه، ومع ذلك لم تنفع هذه
القرارات (الإصلاحية)، لامتصاص غضب الغاضبين وتطويق الثورة المشتعلة؛
فالقرار الإصلاحي إذا لم يُتخذ في (الوقت المناسب) لا يُصبح عديم الفائدة
فحسب، وإنما يُمعن في إضعاف النظام؛ وهذا ما لم يُدركه ابن علي، وكذلك شاه
إيران - أيضاً - إلا مُتأخرَين فسقطا.
فالذي لا يهتم بأرزاق الناس، ولا بتوفير العمل لهم، ولا يعرف في التعامل
معهم إلا لغة الحديد والنار، فهو في هذا العصر يبيع (شرعية) بقائه.