باب ما جاء في حماية المصطفى ـ صلى الله عليه وسلم ـ جناب التوحيد
وسده كل طريق يوصل إلى الشرك
قوله: "المصطفى"، أصلها: المصتفى، من الصفوة، وهو خيار الشيء، فالنبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ أفضل المصطفين لأنه أفضل أولي العزم من الرسل، والرسل هم المصطفون، والمراد به: محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ والاصطفاء على درجات أعلاها اصطفاء أولي العزم من الرسل، ثم اصطفاء الرسل، ثم اصطفاء الأنبياء، ثم اصطفاء الصديقين، ثم اصطفاء الشهداء، ثم اصطفاء الصالحين.
قوله: "حماية"، من حمى الشيء، إذا جعل له مانعًا يمنع من يقرب حوله، ومنه حماية الأرض عن الرعي فيها، ونحو ذلك.
قوله: "جناب"، بمعنى جانب، والتوحيد، تفعيل من الوحدة، وهو إفراد الله تعالى بما يجب له من الربوبية والألوهية والأسماء والصفات.
قوله: "وسده كل طريق"، أي: مع الحماية لم يدع الأبواب مفتوحة يلج إليها من شاء، ولكنه سد كل طريق يوصل إلى الشرك، لأن الشرك أعظم الذنوب، قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاء} [النساء: 48].
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: الشرك الأصغر لا يغفره الله، لعموم قوله: {أَن يُشْرَكَ بِهِ}، وعلى هذا، فجميع الذنوب دونه لقوله: {وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاء}، فيشمل كبائر الذنوب وصغائرها، فالشرك ليس بالأمر الهين الذي يتهاون به، فالشرك يفسد القلب والقصد، وإذا فسد القصد فسد العمل، إذ العمل مبناه على القصد، قال تعالى: {مَن كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لاَ يُبْخَسُونَ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الآخِرَةِ إِلاَّ النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُواْ فِيهَا وَبَاطِلٌ مَّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ} [هود: 15، 16]، وقال ـ صلى الله عليه وسلم ـ: (إنما الأعمال بالنيات) .
إذًا، فالرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ حمى جانب التوحيد حماية محكمة، وسد كل طريق يوصل إلى الشرك ولو من بعيد، لأن من سار على الدرب وصل، والشيطان يزين للإنسان أعمال السوء شيئًا فشيئًا حتى يصل إلى الغاية.
* * *
وقول الله تعالى: {لَقَدْ جَاءكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ} الآية [التوبة: 128].
قوله: {لَقَدْ جَاءكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ}، الجملة مؤكدة بثلاثة مؤكدات: القسم، واللام، وقد، وهي مؤكدة لجميع مدخولها بأنه رسول، وأنه من أنفسهم، وأنه عزيز عليه ما يشق علينا، وأنه بالمؤمنين رؤوف رحيم، فالقسم منصب على كل هذه الأوصاف الأربعة.
والخطاب في قوله: {جاءكم} قيل: للعرب، لقوله: {من أنفسكم}، فالرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ من العرب، قال تعالى: {هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِّنْهُمْ} [الجمعة: 2].
ويحتمل أن يكون عامًا للأمة كلها، ويكون المراد بالنفس هنا الجنس، أي: ليس من الجن ولا من الملائكة، بل هو من جنسكم، كما قال تعالى: {هُوَ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ} [الأعراف، 189].
وعلى الاحتمال الأول فيه إشكال، لأن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ بعث إلى جميع الناس من العرب والعجم.
ولكن يقال في الجواب: إنه خوطب العرب بهذا، لأن منة الله عليهم به أعظم من غيرهم، حيث كان منهم، وفي هذا تشريف لهم بلا ريب.
والاحتمال الثاني أولى، للعموم، ولقوله: {لقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِّنْ أَنفُسِهِمْ} [آل عمران: 164]، ولما كان المراد العرب، قال: {منهم} لا "من أنفسهم"، قال الله تعالى: {هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِّنْهُمْ}، وقال تعالى عن إبراهيم وإسماعيل: {رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِّنْهُمْ}، وعلى هذا، فإذا جاءت "من أنفسهم"، فالمراد: عموم الأمة، وإذا جاءت "منهم"، فالمراد: العرب، فعلى الاحتمال الثاني لا إشكال في الآية.
قوله: {رسول}، أي: من الله، كما قال تعالى: {رَسُولٌ مِّنَ اللَّهِ يَتْلُو صُحُفًا مُّطَهَّرَةً}، وفعول هنا بمعنى مفعل، أي: مرسل.
و{من أنفسكم}، سبق الكلام فيها.
قوله: {عزيز}، أي: صعب، لأن هذه المادة العين والزاي في اللغة العربية تدل على الصلابة، ومنه: "أرض عزاز"، أي: صلبة قوية، والمعنى: أنه يصعب عليه ما يشق عليكم، ولهذا بعث بالحنيفية السمحة، وما خير بين شيئين إلا اختار أيسرهما ما لم يكن إثمًا، وهذا من التيسير الذي بعث به الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ.
قوله: {ما عنتم}، {ما}: مصدرية، وليس موصولة، أي: عنتكم، أي: مشقتكم، لأن العنت بمعنى المشقة، قال تعالى: {ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ الْعَنَتَ مِنْكُمْ} [النساء: 25].
والفعل بعد {ما} يؤول إلى مصدر مرفوع، لكن بماذا هو مرفوع؟
يختلف باختلاف {عزيز} إذا قلنا: بأن {عزيز} صفة لرسول، صار المصدر المؤول فاعلًا به، أي: عزيز عليه عنتكم، وإن قلنا: عزيز خبر مقدم، صار عنتكم مبتدأ، والجملة حينئذ تكون كلها صفة لرسول، أو يقال: عزيز مبتدأ، وعنتكم فاعل سد مسد الخبر على رأي الكوفيين الذي أشار إليه ابن مالك في قوله: وقد يجوز نحو فائز أولو الرشد.
قوله: {حريص عليكم}، الحرص: بذل الجهد لإدراك أمر مقصود، والمعنى: باذل غاية جهده في مصلحتكم، فهو جامع بين أمرين: دفع المكروه الذي أفاده قوله: {عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ}، وحصول المحبوب الذي أفاده قوله: {حريص عليكم}، فكان النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ جامعًا بين هذين الوصفين، وهذا من نعمة الله علينا وعلى الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ أن يكون على هذا الخلق العظيم الممثل بقوله تعالى: {وإنك لعلى خلق عظيم} [القلم: 4].
قوله: {بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ}، {بالمؤمنين}: جار ومجرور خبر مقدم، و{رؤوف}: مبتدأ مؤخر، و{رحيم}: مبتدأ ثان، وتقديم الخبر يفيد الحصر.
والرأفة: أشد الرحمة وأرقها.
والرحمة: رقة بالقلب تتضمن الحنو على المرحوم والعطف عليه بجلب الخير له ودفع الضرر عنه.
وقولنا: رقة في القلب هذا باعتبار المخلوق، أما بالنسبة لله تعالى، فلا نفسرها بهذا التفسير، لأن الله تعالى ليس كمثله شيء، ورحمة الله أعظم من رحمة المخلوق لا تدانيها رحمة المخلوق ولا تماثلها، فقد ثبت عن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ أنه قال: (إن لله مئة رحمة وضع منها رحمة واحدة يتراحم بها الخلق منذ خلقوا إلى يوم القيامة، حتى إن الدابة لترفع حافرها عن ولدها خشية أن تصيبه) .
فمن يحصي هذه الرحمة التي في الخلائق منذ خلقوا إلى يوم القيامة كمية؟ ومن يستطيع أن يقدرها كيفية؟ لا أحد يستطيع إلا الله - عز وجل - الذي خلقها؟
فهذه رحمة واحدة، فإذا كان يوم القيامة رحم الخلق بتسع وتسعين رحمة بالإضافة إلى الرحمة الأولى، وهل هذه الرحمة تدانيها رحمة المخلوق؟
الجواب: أبدًا، لا تدانيها، والقدر المشترك بين رحمة الخالق ورحمة المخلوق أنها صفة تقتضي الإحسان إلى المرحوم، ورحمة الخالق غير مخلوقة، لأنها من صفاته، ورحمة المخلوق مخلوقة، لأنها من صفاته، فصفات الخالق لا يمكن أن تنفصل عنه إلى مخلوق لأننا لو قلنا بذلك لقلنا بحلول صفات الخالق بالمخلوق، وهذا أمر لا يمكن، لأن صفات الخالق يتصف بها وحده، وصفات المخلوق يتصف بها وحده، لكن صفات الخالق لها آثار تظهر في المخلوق، وهذه الآثار هي الرحمة التي نتراحم بها.
وقوله: {بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ}، أي: إن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ في غير المؤمنين ليس رؤوفًا ولا رحيمًا، بل هو شديد عليهم كما وصفه الله هو وأصحابه بذلك في قوله: {مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاء عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاء بَيْنَهُمْ } [الفتح: 29].
قوله: {فإن تولوا}، أي: أعرضوا مع هذا البيان الواضح بوصف الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ.
وهذا التفات من الخطاب إلى الغيبة، لأن التولي مع هذا البيان مكروه، ولهذا لم يخاطبوا به، فلم يقل: فإن توليتم.
والبلاغيون يسمونه التفاتًا، ولو قيل: إنه انتقال، لكان أحسن.
قوله: {فقل حسبي الله}، الخطاب للنبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ أي: قل ذلك معتمدًا على الله، متوكلًا عليه، معتصمًا به: حسبي الله، وارتباط الجواب بالشرط واضح، أي: فإن أعرضوا، فلا يهمنك إعراضهم، بل قل بلسانك وقلبك: حسبي الله، و{حسبي} خبر مقدم، و(لفظ الجلالة) مبتدأ مؤخر، ويجوز العكس بأن نجعل: {حسبي} مبتدأ و(لفظ الجلالة) خبر، لكن لما كانت حسب نكرة لا تتعرف بالإضافة، كان الأولى أن نجعلها هي الخبر.
قوله: {لا إله إلا هو}، أي: لا معبود حق حقيق بالعبادة سوى الله- عز وجل -.
قوله: {عليه توكلت}، عليه: جار ومجرور متعلق بتوكلت، وقدم للحصر.
والتوكل: هو الاعتماد على الله في جلب المنافع ودفع المضار مع الثقة به، وفعل الأسباب النافعة.
وقوله: {عليه توكلت} مع قوله: {لا إله إلا هو} فيها جمع بين توحيدي الربوبية والعبودية، والله تعالى يجمع بين هذه الأمرين كثيرًا، {إياك نعبد وإياك نستعين} [الفاتحة: 5]، وقوله: {فاعبده وتوكل عليه} [هود: 123].
قوله: {وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ}، الضمير يعود على الله - سبحانه - .
و{رب العرش}، أي: خالقه، وإضافة الربوبية إلى العرش - وإن كانت ربوبية الله - عامة تشريفًا للعرش وتعظيمًا له.
ومناسبة التوكل لقوله: {رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ}، لأن من كان فوق كل شيء ولا شيء فوقه، فإنه لا أحد يغلبه، فهو جدير بأن يتوكل عليه وحده.-
وقوله: {العرش} فسره بعض الناس بالكرسي، ثم فسرو الكرسي بالعلم، وحينئذ لا يكون هناك كرسي ولا عرش، وهذا التفسير باطل، والصحيح أن العرش غير الكرسي، وأن الكرسي غير العلم، ولا يصح تفسيره بالعلم، بل الكرسي من مخلوقات الله العظيمة الذي وسع السماوات والأرض، والعرش أعظم وأعظم، ولهذا وصفه بأنه عظيم بقوله تعالى: {وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ} [التوبة 129]، وبأنه مجيد بقوله: {ذو العرش المجيد} [البروج: 15] على قراءة كسر الدال، وبأنه كريم في قوله: {لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ} [المؤمنون: 116]، لأنه أعظم المخلوقات التي بلغنا علمها وأعلاها لأن الله استوى عليه.
وفيه دليل على أن كلمة العظيم يوصف بها المخلوق، لأن العرش مخلوق، وكذلك الرحيم، والرؤوف، والحكيم.
ولا يلزم من اتفاق الاسمين اتفاق المسميين، فإذا كان الإنسان رؤوفًا، فلا يلزم أن يكون مثل الخالق، فلا تقل: إذا كان الإنسان سميعًا بصيرًا عليمًا لزم أن يكون مثل الخالق، لأن الله سميع بصير عليم، كما أن وجود الباري سبحانه لا يستلزم أن تكون ذاته كذوات الخلق، فإن أسماءه كذلك لا يستلزم أن تكون كأسماء الخلق، وهناك فرق عظيم بين هذا وهذا.
وقوله: {فقل حسبي الله}، أي: كافينى، وهكذا يجب أن يعلن المؤمن اعتماده على ربه، ولا سيما في مثل هذا المقام الذي يتخلى الناس عنه، لأنه قال: {فإن تولوا}.
وهذه الكلمةـ كلمة الحسب - تقال في الشدائد، قالها إبراهيم حين ألقي في النار، والنبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ وأصحابه حين قيل لهم: {إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُواْ لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَاناً وَقَالُواْ حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ} [آل عمران: 173].
* (تنبيه):
في سياقنا للآية الثانية فوائد نسأل الله أن ينفع بها.(|لشيخ محمد بن صالح العثيمين)
* * *