حقيقة مذهب الاتحاديين ووحدة الوجود
وقال شيخ الإسلام: أحمد بن تيمية قدس الله روحه: بيان مذهب هؤلاء الاتحادية وبيان بطلانه
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، الرحمن الرحيم، مالك يوم الدين، وأشهد أن لا إله إلا الله الأحد الحق المبين. وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله خاتم النبيين، صلى الله عليه وسلم تسليما كثيرا، وعلى سائر إخوانه المرسلين.
أما بعد:
فقد وصل كتابك، تلتمس فيه بيان مذهب هؤلاء الاتحادية وبيان بطلانه، وإنك كنت قد سمعت مني بعض البيان لفساد قولهم، وضاق الوقت بك عن استتمام بقية البيان، وأعجلك السفر، حتى رأيت عندكم بعض من ينصر قولهم، ممن ينتسب إلى الطريقة والحقيقة، وصادف مني كتابك موقعًا، ووجدت محلا قابلا.
وقد كتبت بما أرجو أن ينفع الله به المؤمنين، ويدفع به بأس هؤلاء
الملاحدة المنافقين، الذين يلحدون في أسماء الله وآياته المخلوقات والمنزلات في كتابه المبين، ويبين الفرق بين ما عليه أهل التحقيق واليقين، من أهل العلم والمعرفة المهتدين، وبين ما عليه هؤلاء الزنادقة المتشبهين بالعارفين، كما تشبه بالأنبياء من تشبه من المتنبئين، كما شبهوا بكلام الله ما شبهوه به من الشعر المفتعل وأحاديث المفترين؛ ليتبين أن هؤلاء من جنس الكفار المنافقين المرتدين، أتباع فرعون والقرامطة الباطنيين، وأصحاب مسيلمة والعنسى ونحوهما من المفترين، وأن أهل العلم والإيمان من الصديقين والشهداء والصالحين، سواء كانوا من المقربين السابقين، أو من المقتصدين أصحاب اليمين، هم من أتباع إبراهيم الخليل، وموسى الكليم، ومحمد المبعوث إلى الناس أجمعين.
قد فرق الله في كتابه المبين الذي جعله حاكما بين الناس فيما اختلفوا فيه من الحق، بين الحق والباطل، والهدى والضلال، والمؤمنين والكافرين، وقال تعالى: {أمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أّن نَّجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاء مَّحْيَاهُم وَمَمَاتُهُمْ سَاء مَا يَحْكُمُونَ}[الجاثية: 12]، وقال: {أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ}[ص: 82]، وقال: {أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ}[القلم: 35، 36]وقد بين حال من تشبه بالأنبياء وبأهل العلم والإيمان، من أهل الكذب والفجور الملبوس عليهم اللابسين، وأخبر أن لهم تنزلًا ووحيا ولكن من الشياطين، فقال: {وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أوليآئِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ} [الأنعام: 121]،
وقال تعالى: {هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلَى مَن تَنَزَّلُ الشَّيَاطِينُ تَنَزَّلُ عَلَى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ}[الشعراء: 221، 222].
وأخبر أن كل من ارتد عن دين الله فلابد أن يأتي الله بَدَلَه بمن يقيم دينه المبين، فقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ مَن يَرْتَدَّ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَلاَ يَخَافُونَ لَوْمَةَ لآئِمٍ ذَل ِكَ فَضْلُ اللّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاء وَاللّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} [المائدة: 54].
وذلك أن مذهب هؤلاء الملاحدة فيما يقولونه من الكلام، وينظمونه من الشعر بين حديث مفترى، وشعر مفتعل، وإليهما أشار أبو بكر الصديق رضي الله عنه لما قال له عمر بن الخطاب في بعض ما يخاطبه به: يا خليفة رسول الله، تألف الناس. فأخذ بلحيته وقال: يا بن الخطاب، أجبارًا في الجاهلية خوارًا في الإسلام؟ علام أتألفهم؟ أعلى حديث مفترى أم شعر مفتعل؟ يقول: إني لست أدعوهم إلى حديث مفترى كقرآن مسيلمة، ولا شعر مفتعل كشعر طليحة الأسدي. وهذان النوعان، هما اللذان يعارض بهما القرآن أهل الفجور والإفك المبين، قال تعالى: {فَلَا أُقْسِمُ بِمَا تُبْصِرُونَ وَمَا لَا تُبْصِرُونَ إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ قَلِيلًا مَا تُؤْمِنُونَ وَلَا بِقَوْلِ كَاهِنٍ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ تَنزِيلٌ مِّن رَّبِّ الْعَالَمِينَ} [الحاقة: 38: 43]،
وقال تعالى: {وَإِنَّهُ لَتَنزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ. نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ} [الشعراء: 192،193]، إلى قوله: {وَمَا تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّيَاطِينُ} إلى آخر السورة.
فذكر في هذه السورة علامة الكهان الكاذبين، والشعراء الغاوين، ونزهه عن هذين الصنفين، كما في سورة الحاقة. وقال تعالى: {إنَّهٍ لّقّوًلٍ رّسٍولُ كّرٌيمُ. ذٌي قٍوَّةُ عٌندّ ذٌي بًعّرًشٌ مّكٌينُ َ}إلى آخر السورة. فالرسول هنا جبريل، وفي الآية الأولى محمد صلى الله عليه وسلم، ولهذا نزه محمدًا هناك عن أن يكون شاعرًا أو كاهنا، ونزه هنا الرسول إليه أن يكون من الشياطين.
فصل:
اعلم هداك الله وأرشدك أن تصور مذهب هؤلاء كاف في بيان فساده، لا يحتاج مع حسن التصور إلى دليل آخر، وإنما تقع الشبهة؛ لأن أكثر الناس لا يفهمون حقيقة قولهم وقصدهم، لما فيه من الألفاظ المجملة والمشتركة، بل وهم أيضا لا يفهمون حقيقة ما يقصدونه ويقولونه، ولهذا يتناقضون كثيرًا في قولهم، وإنما ينتحلون شيئا ويقولونه أو يتبعونه.
ولهذا قد افترقوا بينهم على فرق، ولا يهتدون إلى التمييز بين فرقهم، مع استشعارهم أنهم مفترقون:
ولهذا لما بينت لطوائف من أتباعهم ورؤسائهم حقيقة قولهم، وسر مذهبهم، صاروا يعظمون ذلك، ولولا ما أقرنه بذلك من الذم والرد لجعلوني من أئمتهم، وبذلوا لي من طاعة نفوسهم وأموالهم ما يجل عن الوصف، كما تبذله النصارى لرؤسائهم، والإسماعيلية لكبرائهم، وكما بذل آل فرعون لفرعون.
وكل من يقبل قول هؤلاء فهو أحد رجلين: إما جاهل بحقيقة أمرهم، وإما ظالم يريد علوًا في الأرض وفسادًا، أو جامع بين الوصفين، وهذه حال أتباع فرعون الذين قال الله فيهم: {فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ} [الزخرف: 54]
وحال القرامطة مع رؤسائهم. وحال الكفار والمنافقين في أئمتهم الذين يدعون إلى النار ويوم القيامة لا ينصرون {إِنَّ اللَّهَ لَعَنَ الْكَافِرِينَ وَأَعَدَّ لَهُمْ سَعِيرًا}
إلى قوله: {وَالْعَنْهُمْ لَعْنًا كَبِيرًا} [الأحزاب: 64-68] وقال تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَن يَتَّخِذُ مِن دُونِ اللّهِ أَندَادًا} إلى قوله: {وَمَا هُم بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ} [البقرة: 165-167].
فصل:
حقيقة قول هؤلاء: أن وجود الكائنات هو عين وجود الله تعالى ليس وجودها غيره ولا شيء سواه البتة، ولهذا من سماهم حلولية أو قال: هم قائلون بالحلول رأوه محجوبًا عن معرفة قولهم، خارجا عن الدخول إلى باطن أمرهم؛ لأن من قال: إن الله يحل في المخلوقات، فقد قال بأن المحل غير الحال، وهذا تثنية عندهم وإثبات لوجودين:
أحدهما: وجود الحق الحال.
والثاني: وجود المخلوق المحل، وهم لا يقرون بإثبات وجودين البتة.
ولا ريب أن هذا القول أقل كفرًا من قولهم، وهو قول كثير من الجهمية الذين كان السلف يردون قولهم، وهم الذين يزعمون أن الله بذاته في كل مكان. وقد ذكره جماعات من الأئمة والسلف عن الجهمية وكفروهم به، بل جعلهم خلق من الأئمة كابن المبارك ويوسف بن أسباط وطائفة من أهل العلم والحديث من أصحاب أحمد وغيره خارجين بذلك عن الثنتين والسبعين فرقة. وهو قول بعض متكلمة الجهمية وكثير من متعبديهم.
ولا ريب أن إلحاد هؤلاء المتأخرىن وتجهمهم وزندقتهم تفريع وتكميل لإلحاد هذه الجهمية الأولى وتجهمها وزندقتها.
وأما وجه تسميتهم اتحادية ففيه طريقان: أحدهما: لا يرضونه؛ لأن الاتحاد على وزن الاقتران، والاقتران يقتضي شيئين اتحد أحدهما بالآخر، وهم لا يقرون بوجودين أبدًا والطريق الثاني: صحة ذلك بناء على أن الكثرة صارت وحدة كما سأبينه من اضطرابهم.
وهذه الطريقة إما على مذهب ابن عربي، فإنه يجعل الوجود غير الثبوت ويقول: إن وجود الحق قاض على ثبوت الممكنات، فيصح الاتحاد بين الوجود والثبوت. وأما على قول من لا يفرق فيقول: إن الكثرة الخيالية صارت وحدة بعد الكشف، أو الكثرة العينية صارت وحدة إطلاقية.
(مجموع الفتاوي بن تيميه)