فصل:
مذهب هؤلاء الاتحادية كابن عربي، وابن سبعين، والقونوي، والتلمساني مركب من ثلاثة مواد:
سلب الجهمية وتعطيلهم.
ومجملات الصوفية: وهو ما يوجد في كلام بعضهم من الكلمات المجملة المتشابهة، كما ضلت النصارى بمثل ذلك فيما يروونه عن المسيح، فيتبعون المتشابه، ويتركون المحكم، وأيضا كلمات المغلوبين على عقلهم الذين تكلموا في حال سكر.
ومن الزندقة الفلسفية التي هي أصل التجهم،وكلامهم في الوجود المطلق، والعقول، والنفوس، والوحي والنبوة، والوجوب والإمكان، وما في ذلك من حق وباطل.
فهذه المادة أغلب على ابن سبعين والقونوي، والثانية أغلب على ابن عربي؛ ولهذا هو أقربهم إلى الإسلام، والكل مشتركون في التجهم،والتلمساني أعظمهم تحقيقًا لهذه الزندقة والاتحاد التي انفردوا بها، وأكفرهم بالله، وكتبه، ورسله وشرائعه، واليوم الآخر.
وبيان ذلك أنه قال: هو فيَّ كان متجل بوحدته الذاتية، عالماً بنفسه وبما يصدر عنه، وأن المعلومات بأسرها كانت منكشفة في حقيقة العلم شاهداً لها.
فيقال له: قد أثبت علمه بما يصدر منه، وبمعلومات يشهدها غير نفسه، ثم ذكرت أنه عرض نفسه على هذه الحقائق الكونية المشهودة المعدومة، فعند ذلك عبر [ بأنا] وظهرت حقيقة النبوة، التي ظهر فيها الحق واضحا، وانعكس فيها الوجود المطلق، وأنه هو المسمى باسم الرحمن، كما أن الأول هو المسمي باسم الله.
وسقت الكلام إلى أن قلت: وهو الآن على ما عليه كان، فهذا الذي علم أنه يصدر عنه وكان مشهوداً له معدوماً في نفسه هو الحق أو غيره؟ فإن كان الحق فقد لزم أن يكون الرب كان معدوماً، وأن يكون صادراً عن نفسه، ثم إنه تناقض. وإن كان غيره، فقد جعلت ذلك الغير هو مرآة لانعكاس الوجود المطلق، وهو الرحمن، فيكون الخلق هو الرحمن.
فأنت حائر بين أن تجعله قد علم معدوماً صدر عنه، فيكون له غير وليس هو الرحمن، وبين أن تجعل هذا الظاهر والواصف هو إياه وهو الرحمن، فلا يكون معدوماً ولا صادراً عنه، وإما أن تصف الشيء بخصائص الحق الخالق تارة وبخصائص العبد المخلوق تارة، فهذا مع تناقضه كفر من أغلظ الكفر، وهو نظير قول النصارى: اللاهوت الناسوت، لكن هذا أكفر من وجوه متعددة.
فصل:
الوجه الأول: أن هذه الحقائق الكونية التي ذكرت أنها كانت معدومة في نفسها، مشهودة أعيانها في علمه في تجليه المطلق، الذي كان فيه متحداً بنفسه بوحدته الذاتية هل خلقها وبرأها وجعلها موجودة بعد عدمها، أم لم تزل معدومة ؟ فإن كانت لم تزل معدومة، فيجب ألا يكون شيء من الكونيات موجوداً، وهذا مكابرة للحس، والعقل، والشرع، ولا يقوله عاقل ولم يقله عاقل. وإن كانت صارت موجودة بعد عدمها، امتنع أن تكون هي إياه؛ لأن الله لم يكن معدوماً فيوجد.
وهذا يبطل الاتحاد، ووجب حينئذ أن يكون موجوداً ليس هو الله، بل هو خلقه ومماليكه وعبيده، وهذا يبطل قولك: وهو الآن لا شيء معه على ما عليه كان.
الثاني: أن قولك: تركبت الخلقة الإلهية من كان إلى سر شأنه،أو قولك: ظهر الحق فيه،أو نحو ذلك من الألفاظ التي يطلقها هؤلاء الاتحادية في هذا الموضع. مثل قولهم: ظهر الحق وتجلى، وهذه مظاهر الحق ومجاليه، وهذا مظهر إلهيُّ ومجلى إلهيّ، ونحو ذلك، أتعني به أن عين ذاته حصلت هناك؟ أو
أو تعني به أنه صار ظاهراً متجلياً لها بحيث تعلمه؟ أو تعني به أنه ظهر لخلقه بها، وتجلى بها، وأنه ما ثم قسم رابع؟
فإن عنيت الأول وهو قول الاتحادية فقد صرحت بأن عين المخلوقات حتى الكلاب، والخنازير، والنجاسات، والشياطين والكفار هي ذات الله، أو هي وذات الله متحدتان، أو ذات الله حالة فيها، وهذا الكفر أعظم من كفر الذين قالوا: { إِنَّ اللّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ } [المائدة: 17، 72] و{ إِنَّ اللّهَ ثَالِثُ ثَلاَثَةٍ } [المائدة: 73]، وإن الله يلد ويولد، وأن له بنين وبنات. وإذا صرحت بهذا عرف المسلمون قولك فألحقوك ببني جنسك، فلا حاجة إلى ألفاظ مجملة يحسبها الظمآن ماء، ويا ليته إذا جاءها لم يجدها شيئا، بل يجدها سما ناقعا!
وإن عنيت أنه صار ظاهرًا متجليا لها، فهذا حقيقة أنه صار معلوماً لها، ولا ريب أن الله يصير معروفاً لعبده، لكن كلامك في هذا باطل من وجهين:
من جهة أنك جعلته معلوماً للمعدومات، التي لا وجود لها؛ لكونه قد علمها، واعتقدت أنها إذا كانت معلومة يجوز أن تصير عالمة، وهذا عين الباطل: من جهة أنه إذا علم أن الشيء سيكون، لم يجز أن يكون هذا قبل وجوده عالماً قادراً فاعلا.
ومن جهة أن هذا ليس حكم جميع الكائنات المعلومة، بل بعضها هو الذي يصح منه العلم.
وأما إن قلت: إن الله يعلم بها لكونها آيات دالة عليه فهذا حق، وهو دين المسلمين وشهود العارفين، لكنك لم تقل هذا لوجهين:
أحدهما: أنها لا تصير آيات إلا بعد أن يخلقها ويجعلها موجودة، لا في حال كونها معدومة معلومة، وأنت لم تثبت أنه خلقها ولا جعلها موجودة، ولا أنه أعطى شيئا خلقه، بل جعلت نفسه هو المتجلي لها.الوجه الثاني: أنك قد صرحت بأنه تجلى لها وظهر لها، لا أنه دل بها خلقه، وجعلها آيات تكون تبصرة وذكرى لكل عبد منيب، والله قد أخبر في كتابه أنه يجعل في هذه المصنوعات آيات، والآية مثل العلامة والدلالة كما قال: { وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لاَّ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ } إلى قوله: {لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ } [البقرة: 163، 164] وتارة يسميها نفسها آية، كما قال تعالى: {وَآيَةٌ لَّهُمُ الْأَرْضُ الْمَيْتَةُأَحْيَيْنَاهَا } [يس: 33] وهذا الذي ذكره الله في كتابه هو الحق.
فإذا قيل في نظير ذلك: تجلى بها وظهر بها كما يقال: علم وعرف بها، كان المعنى صحيحا، لكن لفظ التجلي والظهور في مثل هذا الموضع غير مأثور، وفيه إيهام وإجمال، فإن الظهور والتجلي يفهم منه الظهور والتجلي للعين، لا سيما لفظ التجلي، فإن استعماله في التجلي للعين هو الغالب، وهذا مذهب الاتحادية، صرح به ابن عربي وقال: فلا تقع العين إلا عليه.
وإذا كان عندهم أن المرئي بالعين هو الله فهذا كفر صريح باتفاق المسلمين،بل قد ثبت في صحيح مسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "واعلموا أن أحداً
منكم لن يري ربه حتى يموت" ولا سيما إذا قيل: ظهر فيها وتجلى،فإن اللفظ يصير مشتركا بين أن تكون ذاته فيها، أو تكون قد صارت بمنزلة المرآة التي يظهر فيها مثال المرئي، وكلاهما باطل، فإن ذات الله ليست في المخلوقات، ولا في نفس ذاته ترى المخلوقات كما يري المرئي في المرآة، ولكن ظهورها دلالتها عليه وشهادتها له، وإنها آيات له على نفسه، وصفاته سبحانه وبحمده، كما نطق بذلك كتاب الله.
الوجه الثالث: أن مقارنة الألف والنون المعبر عنها ب [أنا] واللفظة التي هي [حقيقة النبوة] و [ الروح الإضافي ] هذه الأشياء داخلة في مسمى أسماء الله، بحيث تكون مما يدخل في مسمى أسمائه الظاهرة والمضمرة، أم ليست داخلة في مسمى أسمائه ؟ فإن كان الأول، فتكون جميع المخلوقات داخلة في مسمى أسماء الله، وتكون المخلوقات جزءاً من الله وصفة له، وإن كان الثاني، فهذه الأشياء معدومة،ليس لها وجود في أنفسها، فكيف يتصور أن تكون موجودة لا موجودة، ثابتة لا ثابتة، منتفية لا منتفية؟ وهذا تقسيم بين، وهو أحد ما يكشف حقيقة هذا التلبيس.
فإن هذه الأمور التي كانت معلومة له معدومة عند نزول الخلية ظهرت هذه الأمور التي ذكرها، فهذه الأمور الظاهرة المعلومة بعد هذا النزول قد صارت [ أنا] وحقيقة نبوة، وروحاً إضافيا، وفعل ذات، ومفعول ذات، ومعنى وسائط، فإن كان جميع ذلك في الله، ففيه كفران عظيمان:
كون جميع المخلوقات جزءًا من الله.
وكونه متغيرًا هذه التغيرات، التي هي من نقص إلى كمال، ومن كمال إلى نقص، وإن كانت خارجة عن ذاته فهذه الأشياء كانت معدومة، ولم يخلقها عندهم خارجة عنه، فكيف يكون الحال ؟
الوجه الرابع: أن عقدة حقيقة النبوة وما معها: إما أن يكون شيئا قائما بنفسه، أو صفة له أو لغيره، فإن كان قائما بنفسه فإما أن يكون هو اللّه أو غيره، فإن كان ذلك هو الله فيكون الله هو النقطة الظاهرة، وهو حقيقة النبوة، وهو الروح الإضافي.
وقد قال بعد هذا: إنه جعل الروح الإضافي في صورة فعل ذاته، وأنه أعطى محمداً عقدة نبوته، فيكون قد جعل نفسه صورة فعله، وأعطى محمداً ذاته، وهذا مع أنه من أبين الكفر وأقبحه فهو متناقض، فمن المعطِي ومن المعطَى ؟ إذا كان أعطى ذاته لغيره، وإن كانت هذه الأشياء أعيانا قائمة بنفسها وهي غير الله فسواء كانت ملائكة أوغيرها، من كل ما سوى الله من الأعيان، فهو خلق من خلق الله مصنوع مربوب، والله خالق كل شيء، فهو قد جعل ظهور الحق واصفا، وأنه المسمي باسم الرحمن، فيكون المسمى باسم الرحمن الواصف لنفسه مخلوقا، وهذا كفر صريح وهو أعظم من إلحاد الذين: {قِيلَ لَهُمُ اسْجُدُوا لِلرَّحْمَنِ قَالُوا وَمَا الرَّحْمَنُ } [الفرقان: 60]، ومن إلحاد الذين قيل فيهم: {وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمَنِ} [الرعد: 30]،فإن أولئك كفروا باسمه وصفته مع إقرارهم برب العالمين، وهؤلاء أقروا بالاسم وجعلوا المسمى مخلوقاً من مخلوقاته.
وأما إن كان المراد بهذه الحقيقة وما معها صفة: فإما أن تكون صفة لله
أو لغيره، فإن كانت صفة لله لم يجز أن تكون هي المسمى باسم الرحمن، فإن ذلك اسم لنفس الله لا لصفاته، والسجود لله لا لصفاته، والدعاء لله لا لصفاته، وإن كانت صفة لغيره فهذا الإلزام أعظم وأعظم.
وهذا تقسيم لا محيص عنه، فإن هذا الملحد في أسماء الله جعل هذه العقدة التي سماها عقدة حقيقة النبوة وجعلها صورة علم الحق بنفسه، وجعلها مرآة لانعكاس الوجود المطلق، محلا لتميز صفاته القديمة، وأن الحق ظهر فيه بصورته وصفته واصفا يصف نفسه ويحيط به، وهو المسمى باسم الرحمن، ثم ذكر أنه أعطى محمداً هذه العقدة.
ومعلوم أن المسمى باسم الرحمن هو المسمى باسم الله كما قال تعالى: {قُلِ ادْعُواْ اللّهَ أَوِ ادْعُواْ الرَّحْمَنَ أَيًّا مَّا تَدْعُواْ فَلَهُ الأَسْمَاء الْحُسْنَى } [الإسراء: 110] فيكون هو سبحانه هذه العقدة التي أعطاها لمحمد، وإن كانت صفة له أو غيره، فتكون هي الرحمن، فهذا الملحد دائر بين أن يكون الرحمن هو خلق من خلق الله أو صفة من صفاته، وبين أن يكون الرحمن قد وهبه الله لمحمد، وكل من القسمين من أسمج الكفر وأبشعه.
الوجه الخامس: أن قوله: لهذه الحقيقة طرفان: طرف إلى الحق المواجه إليها، الذي ظهر فيه الوجود الأعلى واصفا، وطرف إلى ظهور العالم منه، وهو المسمى بالروح الإضافي.
فذكر في هذا الكلام ظهور الوجود وظهور العالم، وقد تقدم أن الحق كان ولم يكن معه شيء وهو متجلّ بنفسه بوحدته الذاتية، وأنه لما نزلت الخلية
الإلهية، ظهرت عقدة حقيقة النبوة، فصارت مرآة لانعكاس الوجود، فظهر الحق فيه بصورة وصفه واصفا.
وقد ذكر في هذا الكلام الحق المواجه إليها والوجود الأعلى الذي ظهر في هذا الحق، والطرف الذي لها إلى الحق، فقد ذكر هنا ثلاثة أشياء: الحق، والوجود، والطرف، وقد جعل فيما تقدم: الحق هو الوجود المطلق الذي انعكس، وهو الحق الذي ظهر فيه واصفا، فتارة يجعل الحق هو الوجود المطلق، وتارة يجعل الوجود المطلق قد ظهر في هذا الحق، وهذا تناقض.
ثم يقال له: هذان عندك عبارة عن الرب تعالى، فقد جعلته ظاهرًا وجعلته مظهرًا، فإن عنيت بالظهور الوجود فيكون الرب قد وجد مرة بعد مرة، وهذا كفر شنيع، فكيف يتصور تكرر وجوده؟ وكيف يتصور أن يكون قد وجد في نفسه بعد أن لم يكن موجودا في نفسه ؟ وإن عنيت به الوضوح والتجلي، فليس هناك مخلوق يظهر له ويتجلى؛ إذ العالم بعد لم يخلق، وأنت قلت: ظهر الحق فيه واصفا، وسميته الرحمن، ولم تجعل ظهوره معلوما ولا مشهودا، فكيف يتصور أن يكون متجليا لنفسه بعد أن لم يكن متجليا؟ فإن هذا وصف له بأنه لم يكن يعلم نفسه حتى علمها.
وأيضا، فقد قلت: إنه كان متجليا لنفسه بوحدته، فهذا كفر وتناقض.
الوجه السادس: أن هذا التحير والتناقض مثل تحير النصارى، وتناقضهم في الأقانيم.
فإنهم يقولون: الآب والابن وروح القدس ثلاثة آلهة، وهي إله واحد.
والمتدرع بناسوت المسيح هو الابن، ويقولون: هي الوجود، والعلم، والحياة، والقدرة.
فيقال لهم: إن كانت هذه صفات فليست آلهة، ولا يتصور أن يكون المتدرع بالمسيح إلهاً، إلا أن يكون هو الآب، وإن كانت جواهر وجب ألا تكون إلها واحداً؛ لأن الجواهر الثلاثة لا تكون جوهراً واحداً، وقد يمثلون ذلك بقولنا: زيد العالم القادر الحي، فهو بكونه عالمًا ليس هو بكونه قادرًا.
فإذا قيل لهم: هذا كله لا يمنع أن يكون ذاتاً واحدة لها صفات متعددة، وأنتم لا تقولون ذلك.
وأيضا،فالمتحد بالمسيح إذا كان إلهاً امتنع أن يكون صفة، وإنما يكون هو الموصوف، وأنتم لا تقولون بذاك، فما هو الحق لا تقولونه، وما تقولونه ليس بحق، وقد قال تعالى: { يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لاَ تَغْلُواْ فِي دِينِكُمْ وَلاَ تَقُولُواْ عَلَى اللّهِ إِلاَّ الْحَقِّ َّ} [النساء: 171].
فالنصارى حياري متناقضون،إن جعلوا الأقنوم صفة امتنع أن يكون المسيح إلهاً، وإن جعلوه جوهراً امتنع أن يكون الإله واحداً، وهم يريدون أن يجعلوا المسيح الله ويجعلوه ابن الله، ويجعلوا الآب والابن وروح القدس إلهًا واحدًا؛ ولهذا وصفهم الله في القرآن بالشرك تارة، وجعلهم قسما غير المشركين تارة؛ لأنهم يقولون الأمرين وإن كانوا متناقضين.
وهكذا حال هؤلاء، فإنهم يريدون أن يقولوا بالاتحاد وأنه ما ثم غير، ويريدون أن يثبتوا وجود العالم، فجعلوا ثبوت العالم في علمه وهو شاهد له، وجعلوه متجليا لذلك المشهود له، فإذا تجلى فيه كان هو المتجلي لا غيره، وكانت تلك الأعيان المشهودة هي العالم.
وهذا الرجل، وابن عربي، يشتركان في هذا، ولكن يفترقان من وجه آخر.
فإن ابن عربي يقول: وجود الحق ظهر في الأعيان الثابتة في نفسها، فإن شئت قلت: هو الحق، وإن شئت قلت: هو الخلق، وإن شئت قلت: هو الحق والخلق، وإن شئت قلت: لا حق من كل وجه، ولا خلق من كل وجه، وإن شئت قلت بالحيرة في ذلك.
وأما هذا فإنه يقول: تجلى الأعيان المشهودة له، فقد قالا في جميع الخلق ما يشبه قول ملكية النصارى في المسيح، حيث قالوا بأن اللاهوت والناسوت صارا جوهرًا واحدًا له أقنومان.
وأما التلمساني فإنه لا يثبت تعددًا بحال، فهو مثل يَعَاقِبَه النصارى، وهم أكفرهم، والنصارى قالوا بذلك في شخص واحد، وقالوا: إن اللاهوت يتدرع بالناسوت بعد أن لم يكن متدرعا به.
وهؤلاء قالوا: إنه في جميع العالم، وإنه لم يزل، فقالوا بعموم ذلك ولزومه، والنصارى قالوا بخصوصه وحدوثه، حتى قال قائلهم: النصارى إنما كفروا لأنهم خصصوا.
وهذا المعنى قد ذكره ابن عربي في غير موضع من الفصوص، وذكر أن إنكار الأنبياء على عُبّاد الأصنام إنما كان لأجل التخصيص، وإلا فالعارف المكمل من عبده في كل مظهر، وهو العابد والمعبود، وأن عباد الأصنام لو تركوا عبادتهم لتركوا من الحق بقدر ما تركوا منها، وأن موسى إنما أنكر على هارون لكون هارون نهاهم عن عبادة العجل، لضيق هارون، وعلم موسى بأنهم ما عبدوا إلا الله، وأن هارون إنما لم يسلط على العجل ليعبدوا الله في كل صورة، وإن أعظم مظهر عبد فيه هو الهوى، فما عبد أعظم من الهوى، لكن ابن عربي يثبت أعيانًا ثابتة في العدم.
وهذا ابن حمويه إنما أثبتها مشهودة في العلم فقط، وهذا القول هو الصحيح، لكن لا يتم معه ما طلبه من الاتحاد، ولهذا كان هو أبعدهم عن تحقيق الاتحاد وأقرب إلى الإسلام، وإن كان أكثرهم تناقضًا وهذيانًا، فكثرة الهذيان خير من كثرة الكفر.
ومقتضى كلامه هذا: أنه جعل وجوده مشروطًا بوجود العالم، وإن كان له وجود ما غير العالم، كما أن نور العين مشروط بوجود الأجفان وإن كان قائما بالحدقة، فعلى هذا يكون الله مفتقرًا إلى العالم محتاجًا إليه كاحتياج نور العين إلى الجفنين، وقد قال الله تعالى: {لَّقَدْ سَمِعَ اللّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّ اللّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءِ}إلى آخر الآية [آل عمران: 181].
فإذا كان هذا قوله فيمن وصفه بأنه فقير إلى أموالهم ليعطيها الفقراء، فكيف قوله فيمن جعل ذاته مفتقرة إلى مخلوقاته، بحيث لولا مخلوقاته لانتشرت ذاته، وتفرقت وعدمت، كما ينتشر نور العين ويتفرق، ويعدم إذا عدم الجفن؟
وقد قال في كتابه: {إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ أَن تَزُولَا وَلَئِن زَالَتَا} الآية [فاطر: 41]. فمن يمسك السموات والأرض؟ وَقَالَ فِي كِتَابه: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَن تَقُومَ السَّمَاء وَالْأَرْضُ بِأَمْرِهِ ٌ} الآية [الروم: 25]. وقال: {رَفَعَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا} [الرعد: 2] وقال: {وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَلاَ يَؤُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ الْعلى الْعَظِيمُ} [البقرة: 255] لا يؤوده: لا يثقله ولا يكرثه.
وقد جاء في الحديث، حديث أبي داود: "ما السموات والأرض وما بينهما في الكرسي إلا كحلقة ملقاة بأرض فلاة، والكرسي في العرش كتلك الحلقة في الفلاة". وقد قال في كتابه: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ}الآية [الزمر: 67].
وقد ثبت في الصحاح من حديث أبي هريرة وابن عمر وابن مسعود: "إن اللَّهَ يَمْسِكُ السَّمَواتِ والأرْضَ بِيَدِهِ" فمن يكون في قبضته السموات والأرض، وكرسيه قد وسع السموات والأرض، ولا يؤوده حفظهما،
وبأمره تقوم السماء والأرض، وهو الذي يمسكهما أن تزولا، أيكون محتاجًا إليهما مفتقرًا إليهما، إذا زالا تفرق وانتشر؟
وإذا كان المسلمون يكفّرون من يقول: إن السموات تقلِّه أو تظلِّه، لما في ذلك من احتياجه إلى مخلوقاته، فمن قال: إنه في استوائه على العرش محتاج إلى العرش كاحتياج المحمول إلى حامله فإنه كافر؛ لأن الله غني عن العالمين حي قيوم، هو الغني المطلق وما سواه فقير إليه، مع أن أصل الاستواء على العرش ثابت بالكتاب والسنة، واتفاق سلف الأمة وأئمة السنة، بل هو ثابت في كل كتاب أنزل على كل نبي أرسل، فكيف بمن يقول: إنه مفتقر إلى السموات والأرض، وأنه إذا ارتفعت السموات والأرض، تفرق، وانتشر، وعدم فأين حاجته في الحمل إلى العرش، من حاجة ذاته إلى ما هو دون العرش؟
ثم يقال لهؤلاء: إن كنتم تقولون بقدم السموات والأرض ودوامهما، فهذا كفر. وهو قول بقدم العالم، وإنكار انفطار السموات والأرض وانشقاقهما، وإن كنتم تقولون بحدوثهما فكيف كان قبل خلقهما؟ هل كان منتشرًا، متفرقًا معدومًا، ثم لما خلقهما صار موجودًا مجتمعًا؟ هل يقول هذا عاقل؟
فأنتم دائرون بين نوعين من الكفر، مع غاية الجهل والضلال، فاختاروا أيهما شئتم. إن صور العالم لا تزال تفنى ويحدث في العالم بدلها مثل ال.. والنبات والمعادن، ومثل ما يحدثه الله في الجو من السحاب والرعد والبرق والمطر وغير ذلك، فكلما عدم شيء من ذلك، ينتقص من نور الحق، ويتفرق
ويعدم، بقدر ما عدم من ذلك، وكلما زاد شيء من ذلك، زاد نوره واجتمع ووجد.
وأما إن عنى أن نور الله باق بعد زوال السموات والأرض، لكن لا يظهر فيه شيء، فما الشيء الذي يظهر بعد عدم هذه الأشياء؟ وأي تأثير للسموات والأرض في حفظ نور الله؟
وقد ثبت في الصحيح عن أبي موسى الأشعري، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "إن الله لا ينام، ولا ينبغي له أن ينام، يخفض القسط ويرفعه، يُرفع إليه عمل الليل قبل عمل النهار، وعمل النهار قبل عمل الليل، حجابه النور أو النار لو كشفه لأحرقت سُبُحات وجهه ما أدركه بصره من خلقه"، وقال عبد الله بن مسعود: إن ربكم ليس عنده ليل ولا نهار، نور السموات من نور وجهه.
فقد أخبر الصادق المصدوق أن الله لو كشف حجابه لأحرقت سبحات وجهه ما أدركه بصره من السموات والأرض، وغيرهما، فمن يكون سبحات وجهه تحرق السموات والأرض، وإنما حجابه هو الذي يمنع هذا الإحراق، أيكون نوره إنما يحفظ بالسموات والأرض؟
الوجه السابع: قوله: فالعلويات جفنها الفوقاني، والسفليات جفنها التحتاني، والتفرقة البشرية في السفليات أهداب الجفن الفوقاني، والنفس الكلية سوادها، والروح الأعظم بياضها. يقال له: فإذا كان العالم هو هذه
العين، فالعين الأخرى أي شيء هي؟ وبقية الأعضاء أين هي؟ هذا لازم قولك: إن عنيت بالعين المتعين، وإن عنيت الذات والنفس وهو ما تعين فيه فقد جعلت نفس السموات والأرض وال.. والملائكة أبعاضًا من الله، وأجزاء منه، وهذا قول هؤلاء الزنادقة، الفرعونية الاتحادية، الذين أتبعهم الله في الدنيا لعنة ويوم القيامة هم من المقبوحين.
فيقال له: فعلى هذا لم يخلق الله شيئا، ولا هو رب العالمين؛ لأنه إما أن يخلق نفسه أو غيره، فخلقه لنفسه محال، وهذا معلوم بالبديهة أن الشيء لا يخلق نفسه؛ ولهذا قال تعالى: {أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ} [الطور: 35]، يقول: أخلقوا من غير خالق، أم هم خلقوا أنفسهم؟
ولهذا قال جبير بن مطعم: لما سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ هذه الآية، أحسست بفؤادي قد انصدع. فقد علموا أن الخالق لا يكون هو المخلوق بالبديهة، وخلقه لغيره ممتنع على أصلهم؛ لأن هذه الأشياء هي أجزاء منه ليست غيرا له.
الوجه الثامن: أنه جعل البشر أهداب جفن حقيقة الله، وهم دائما يزيدون وينقصون، ويموتون ويحيون، وفيهم الكافر والمؤمن، والفاجر والبر، فتكون أهداب جفن حقيقة الله لا تزال مفرقة، كاشرة فاسدة، ويكون المشركون، واليهود، والنصارى أجفان حقيقته، وقد لعن من جعلهم أبناءه على سبيل الاصطفاء، فكيف بمن جعلهم من نفسه؟ الوجه التاسع: أنه متناقض من حيث جعل الروح بياضها، والنفس الكلية سوادها، والسموات الجفن الأعلى، والأرضون الجفن الأسفل.
ومعلوم أن جفني عين الإنسان محيطان بالسواد والبياض، والروح والنفس عنده هي فوق السموات والأرض، ليست بين السماء والأرض، كما أن سواد العين وبياضها بين الجفنين، فهذا التمثيل مع أنه من أقبح الكفر، ففيه من الجهالة والتناقض ما تراه.
الوجه العاشر: أن النفس الكلية اسم تلقاه عن الصابئة الفلاسفة.
وأما الروح: فإن مقصوده بها هو الذي يسمونه العقل، وهو أول الصادرات، وسماه هو روحًا، وهذا بناه على مذهب الصابئة، وليس هذا من دين الحنفاء، وقد بينا فساد ذلك في غير هذا الموضع.
لكن الصابئة الفلاسفة خير من هؤلاء، فإنهم يقرون بواجب الوجود الذي صدرت عنه العقول، والنفوس والأفلاك، والأرض لا يجعلونها إياه وهؤلاء يجعلونها إياه.
فقولهم إنما ينطبق على المعطلة، مثل فرعون وحزبه الذي قال: {وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ} [الشعراء: 23]، وقال: {مَا عَلِمْتُ لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرِي} [القصص: 38]، وقال: {وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا هَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحًا لَّعلى أَبْلُغُ الْأَسْبَابَ أَسْبَابَ السَّمَاوَاتِ} الآية [غافر: 36، 37]
فإن فرعون يقر بوجود هذا العالم، ويقول: ما فوقه رب، ولا له خالق غيره.
فهؤلاء إذا قالوا: إنه عين السموات والأرض، فقد جحدوا ما جحده فرعون، وأقروا بما أقر به فرعون، إلا أن فرعون لم يسمه إلها ولم يقل: هو الله.
وهؤلاء قالوا: هذا هو اللّه، فهم مقرون بالصانع، لكن جعلوه هو الصنعة فهم في الحقيقة معطلون، وفي اعتقادهم مقرون.
وفرعون بالعكس: كان منكرًا للصانع في الظاهر، وكان في الباطن مقرًا به، فهو أكفر منهم، وهم أضل منه وأجهل، ولهذا يعظمونه جدًا.
الوجه الحادي عشر: قول القائل: بل هذا هو الحق الصريح المتبع، لا ما يرى المنحرف عن مناهج الإسلام ودينه، المتحير في بيداء ضلالته وجهله.
فيقال: من الذي قال هذا الحق من الأولين والأخرين؟ وهذا كتاب الله من أوله إلى آخره، الذي هو كلام الله، ووحيه، وتنزيله، ليس فيه شيء من هذا، ولا في حديث واحد عن النبي صلى الله عليه وسلم، ولا عن أحد من أئمة الإسلام ومشايخه، إلا عن هؤلاء المفترين على الله الذين هم في مشائخ الدين نظير جنكسخان في أمر الحرب، فديانتهم تشبه دولته، ولعل إقراره بالصانع خير من إقرارهم، لكن بعضهم قد يوجب الإسلام فيكون خيرًا من التتار من هذا الوجه.
وأما محققوهم وجمهورهم، فيجوز عندهم التهود والتنصر، والإسلام
والإشراك، لا يحرمون شيئا من ذلك، بل المحقق عندهم لا يحرم عليه شيء، ولا يجب عليه شيء.
ومعلوم أن التتار الكفار خير من هؤلاء، فإن هؤلاء مرتدون عن الإسلام من أقبح أهل الردة، والمرتد شر من الكافر الأصلي من وجوه كثيرة، وإذا كان أبو بكر الصديق قاتل المرتدين بمنعهم الزكاة، فقتال هؤلاء أولى.
وأما ما حكاه عن الذي سماه الشيخ المحقق، العالم الرباني، الغوث السابع [في الشمعة] من أنه قال: اعلم أن العالم بمجموعه حدقة عين الله، التي لا تنام. . . إلخ. فالكلام عليه من وجوه:
أحدها: أن تسمية قائل مثل هذا المقال: محققًا، وعالمًا، وربانيًا، عين الضلالة والغواية، بل هذا كلام لا تقوله لا اليهود، ولا النصارى، ولا عباد الأوثان.
فإن كان الذي قاله مسلوب العقل، كان حكمه حكم غيره في أن الله رفع عنه القلم، وإن كان عاقلا فجرأة على الله الذي يقول: {وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئًا إِدًّا تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ} إلى آخر الآيات [مريم: 88: 90]، وقال: {وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ بَلْ عِبَادٌ مُّكْرَمُونَ لَا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ} إلى قوله: {الظالمين} [الأنبياء: 26، 27]، وقال: {لَّقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَآلُواْ إِنَّ اللّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ قُلْ فَمَن يَمْلِكُ مِنَ اللّهِ شَيْئًا إِنْ أَرَادَ أَن يُهْلِكَ الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ} إلى قوله: {وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ} [المائدة: 17، 18].
فإذا كان هذا قوله فيمن يقول: إنهم أبناؤه وأحباؤه، فكيف قوله فيمن يقول: إنهم أهداب جفنه؟ ! تعالى الله عما يقول الظالمون علوا كبيرا.
الوجه الثاني: أن هذا الشيخ الضال الذي قال هذا الكفر والضلال قد نقض آخر كلامه بأوله، فإن لفظ العين: مشترك بين نفس الشيء، وبين العضو المبصر، وبين مسميات أخر، وإذا قال بعين الشيء، فهو من العين التي بمعنى النفس، أي تميز بنفسه عن غيره، فإذا قال: إن العالم بمجموعه حدقة عين الله التي لا تنام فالعين هنا بمعنى البصر.
ثم قال في آخر كلامه: ونعني بعين الله ما يتعين الله فيه، فهذا من العين بمعنى النفس، وهذه العين ليس لها حدقة ولا أجفان، وإنما هذا بمنزلة من قال: نبعت العين وفاضت، وشربنا منها واغتسلنا، ووزنتها في الميزان، فوجدتها عشرة مثاقيل، وذهبها خالص.
وسبب هذا: أنه كان كثيرا ما كان يتصرف في حروف بلا معان.
الوجه الثالث: أنه تناقض من وجه آخر، فإنه إذا كان العالم هو حدقة العين، فينبغي أن يكون قد بقي من الله بقية الأعضاء غير العين، فإذا قال في آخر كلامه: والله هو نور العين، كان الله جزءًا من العين، أو صفة له، فقد جعل في أول كلامه العالم جزءًا من الله، وفي آخر كلامه جعل الله جزءًا من العالم، وكل من القولين كفر، بل هذا أعظم من كفر الذين ذكرهم الله بقوله: {وَجَعَلُوا لَهُ مِنْ عِبَادِهِ جُزْءًا إِنَّ الْإِنسَانَ لَكَفُورٌ مُّبِينٌ أَمِ اتَّخَذَ مِمَّا يَخْلُقُ بَنَاتٍ وَأَصْفَاكُم بِالْبَنِينَ} [الزخرف: 15، 16]،
فإذا كان الله كفر من جعل له من عباده جزءًا، فكيف من جعل عباده تارة جزءًا منه، وتارة جعله هو جزءًا منهم؟!
فلعن الله أرباب هذه المقالات، وانتصر لنفسه، ولكتابه، ولرسوله، ولعباده المؤمنين منهم.
الوجه الرابع: أنه تناقض من جهة أخرى، فإنه إذا قال: العين ما يتعين الله فيه، والعالم كله حدقة عينه التي لا تنام، فقد جعله متعينًا في جميع العالم، فإذا قال بعدها: وهو نور العين، بقيت سائر أجزاء العين، من الأجفان، والأهداب والسواد، والبياض، لم يتعين فيها، فقد جعله متعينًا فيها، غير متعين فيها.
الوجه الخامس: أن نور العين مفتقر إلى العين، محتاج إليها لقيامه بها، فإذا كان الله في العالم كالنور في العين، وجب أن يكون محتاجًا إلى العالم.
واعلم أن هذا القول يشبه قول الحلولية، الذين يقولون: هو في العالم كالماء في الصوفة، وكالحياة في الجسم ونحو ذلك، ويقولون: هو بذاته في كل مكان، وهذا قول قدماء الجهمية، الذين كفرهم أئمة الإسلام، وحكي عن الجهم أنه كان يقول: هو مثل هذا الهواء، أو قال: هو هذا الهواء.
وقوله أولا: هو حدقة عين الله، يشبه قول الاتحادية، فإن الاتحادية يقولون: هو مثل الشمعة التي تتصور في صور مختلفة وهي واحدة، فهو عندهم الوجود، واختلاف أحواله كاختلاف أحوال الشمعة.
ولهذا كان صاحب هذه المقالات، متخبطا لا يستقر عند المسلمين الموحدين المخلصين، ولا هو عند هؤلاء الملاحدة الاتحادية من محققيهم العارفين.
فإن هؤلاء كلهم من جنس النصيرية، والإسماعيلية، مقالات هؤلاء في الرب من جنس مقالات أولئك، وأولئك فيهم المتمسك بالشريعة، وفيهم المتخلى عنها، وهؤلاء كذلك، لكن أولئك أحذق في الزندقة، وهم يعلمون أنهم معطلون مثل فرعون، وهؤلاء جهال يحسبون أنهم يحسنون صنعا.
الوجه السادس: قوله: إن العلويات والسفليات لو ارتفعت لانبسط نور الله تعالى: بحيث لا يظهر فيه شيء أصلا، وهذا كلام مجمل، ولا ريب أن قائل هذه المقالة من المذبذبين، بين الكافرين والمؤمنين، لا هو من المؤمنين، ولا من الاتحادية المحضة، لكنه قد لبس الحق بالباطل، وذلك أن الاتحادية يقولون: إن عين السموات والأرض لو زالت لعدم الله، وهذا اللفظ يصرح به بعضهم، وأما غالبهم فيشيرون إليه إشارة، وعوامهم لا يفهمون هذا من مذهب الباقين، فإن هؤلاء من جنس القرامطة، والباطنية، وأولئك إنما يصلون إلى البلاغ الأكبر، الذي هو آخر مراتب خواصهم.
ولهذا حدثني بعض أكابر هؤلاء الاتحادية عن صاحب هذه المقالة، أنه كان يقول: ليس بين التوحيد والإلحاد إلا فرق لطيف. فقلت له: هذا من أبطل الباطل، بل ليس بين مذهبين من الفرق أعظم مما بين التوحيد والإلحاد، وهذا قاله بناء على هذا الخلط واللبس الذي خلطه، مثل
قوله: إن العلويات والسفليات لو ارتفعت لانبسط نور الله، بحيث لا يظهر فيه شيء.
فيقال له: إذا ارتفعت العلويات والسفليات: فما تعني بانبساطه؟ أتعني تفرقه وعدمه كما يتفرق نور العين عند عدم الأجفان؟ أم تعني أنه ينبسط شيء موجود؟ وما الذي ينبسط حينئذ؟ أهو نفس الله، أم صفة من صفاته؟ وعلى أي شيء ينبسط؟ وما الذي يظهر فيه أو لا يظهر؟
فإن عنيت الأول وهو مقتضى أول كلامك، لأنك قلت: وإنما قلنا: إن العلويات والسفليات أجفان عين الله لأنهما يحافظان على ظهور النور، فلو قطعت أجفان عين الإنسان، لتفرق نور عينه وانتشر، بحيث لا يرى شيئا أصلا، فكذلك العلويات والسفليات لو ارتفعت لانبسط نور الله، بحيث لا يظهر فيه شيء أصلا.
وقد قلت: إن الله هو نور العين، والروح الأعظم بياضها، والنفس الكلية سوادها.
ومعلوم أن نور العين على ما ذكرته بشرط وجوده هو الأجفان، فإذا ارتفع الشرط ارتفع المشروط، فيكون العالم عندك شرطا في وجود الله، فإذا ارتفع العالم ارتفعت حقيقة الله لانتفاء شرطه، وإن أثبت له ذاتا غير العالم فهذا أحد قولي الاتحادية.
فإنهم تارة يجعلون وجود الحق هو عين وجود المخلوقات ليس غيرها،
وعلى هذا فلا يتصور وجوده مع عدم المخلوقات، وهذا تعطيل محض للصانع وهو قول القونوي والتلمساني، وهو قول صاحب الفصوص في كثير من كلامه، وتارة يجعلون له وجودًا قائما بنفسه، ثم يجعلون نفس ذلك الوجود هو أيضا وجود المخلوقات، بمعنى أنه فاض عليها، وهذا أقل كفرًا من الأول، وإن كان كلاهما من أغلظ الكفر وأقبحه.
وفي كلام صاحب الفصوص وغيره في بعض المواضع ما يوافق هذا القول، وكذلك كلام هذا، فإنه قد يشير إلى هذا المعنى.
ثم مع ذلك: هل يجعلون وجوده مشروطا بوجود العالم، فيكون محتاجا إلى العالم، أو لا يجعلون؟ قد يقولون هذا، وقد يقولون هذا.
السابع: أنهم يمدحون الضلال والحيرة، والظلم والخطأ، والعذاب الذي عذب الله به الأمم، ويقلبون كلام الله وكلام رسوله قلبا يعلم فساده بضرورات العقول مثل قول صاحب الفصوص: لو أن نوحا ما جمع لقومه بين الدعوتين لأجابوه فدعاهم جهارًا، ثم دعاهم إسرارًا. إلى أن قال: وذكر عن قومه أنهم تصاموا عن دعوته، لعلمهم بما يجب عليهم من إجابة دعوته. فعلم العلماء بالله ما أشار إليه نوح في حق قومه، من الثناء عليهم بلسان الذم، وعلم أنهم إنما لم يجيبوا دعوته لما فيها من الفرقان، والأمر قرآن لا فرقان. ومن أقيم في القرآن لا يصغي إلى الفرقان، وإن كان فيه.
فيمدحون ويحمدون ما ذمه الله ولعنه، ونهى عنه، ويأتون من الإفك
والفرية على الله والإلحاد في أسماء الله وآياته، بما: {تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدًّا} [مريم: 90]، كقول صاحب الفصوص في فص نوح:
{مِمَّا خَطِيئَاتِهِمْ أُغْرِقُوا} [نوح: 25]، فهي التي خطت بهم فغرقوا في بحار العلم بالله وهو الحيرة.
{فَأُدْخِلُوا نَارًا} [نوح: 25] في عين الماء في المحمدتين، ف {وَإِذَا الْبِحَارُ سُجِّرَتْ} [التكوير: 6] سجرت التنور: إذا أوقدته، {فَلَمْ يَجِدُوا لَهُم مِّن دُونِ اللَّهِ أَنصَارًا} [نوح: 25]: فكان الله عين أنصارهم، فهلكوا فيه إلى الأبد، فلو أخرجتهم إلى السيف سيف الطبيعة، لنزلوا عن هذه الدرجة الرفيعة، وإن كان الكل لله، وبالله، بل هو الله. وَقَالَ نُوحٌ رَّبِّ لَا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ} [نوح: 26] الذين استغشوا ثيابهم وجعلوا أصابعهم في آذانهم، طلبًا للستر لأنه دعاهم ليغفر لهم، والغفر الستر، {دَيَّارًا} أحدًا حتى تعم المنفعة كما عمت الدعوة، {إِنَّكَ إِن تَذَرْهُمْ} أي: تدعهم وتتركهم {يُضِلُّوا عِبَادَكَ} أي: يحيروهم ويخرجوهم من العبودية إلى ما فيهم من أسرار الربوبية، فينظروا أنفسهم أربابا، بعد ما كانوا عند أنفسهم عبيدًا، فهم العبيد الأرباب {وَلَا يَلِدُوا} أي ما ينتجون ولا يظهرون {إِلَّا فَاجِرًا} [نوح: 27] أي مظهرًا ما ستر {كَفَّارًا} أي: ساترا ما ظهر بعد ظهوره، فيظهرون ما ستر، ثم يسترونه بعد ظهوره، فيحار الناظر، ولا يعرف قصد الفاجر في فجوره، ولا الكافر في كفره، والشخص واحد، {رَبِّ اغْفِرْ لِي} أي: استرني، واستر مراحلي، فيجهل مقامي وقدري كما جهل قدرك في قولك:
{وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ} [الزمر: 67]، {وَلِوَالِدَيَّ} أي: من كنت نتيجة عنهما وهما العقل والطبيعة {وَلِمَن دَخَلَ بَيْتِيَ} أي: قلبي {مُؤْمِنًا} مصدقا بما يكون فيه من الأخبار الإلهية وهو ما حدثت به أنفسها، {وَالْمُؤْمِنَاتِ} من العقول {وَالْمُؤْمِنَاتِ} من النفوس {وَلَا تَزِدِ الظَّالِمِينَ} من الظلمات أهل الغيب المكتنفين داخل الحجب الظلمانية {إِلَّا تَبَارًا} [نوح: 28] أي: هلاكا، فلا يعرفون نفوسهم، لشهودهم وجه الحق دونهم.
وهذا كله من أقبح تبديل كلام الله وتحريفه، ولقد ذم الله أهل الكتاب في القرآن على ما هو دون هذا، فإنه ذمهم على أنهم حرفوا الكلم عن مواضعه، وأنهم يكتبون الكتاب بأيديهم ثم يقولون: هو من عند الله، وما هو من عند الله، ويقولون على الله الكذب وهم يعلمون.
وهؤلاء قد حرفوا كلام الله عن مواضعه أقبح تحريف، وكتبوا كتب النفاق والإلحاد بأيديهم، وزعموا أنها من عند الله.
تارة يزعمون أنهم يأخذون من حيث يأخذ الملك الذي يوحي به إلى النبي، فيكونون فوق النبي بدرجة.
وتارة يزعمون أنهم يأخذون من حيث يأخذ الله، فيكون أحدهم في علمه بنفسه بمنزلة علم الله به؛ لأن الأخذ من معدن واحد.
وتارة يزعم أحدهم أن النبي صلى الله عليه وسلم أعطاه في منامه هذا النفاق
العظيم، والإلحاد البليغ، وأمره أن يخرج به إلى أمته وأنه أبرزه، كما حده له رسول الله صلى الله عليه وسلم، من غير زيادة ولا نقصان، وكان جماعة من الفضلاء حتى بعض من خاطبني فيه وانتصر له يرى أنه كان يستحل الكذب، ويختارون أن يقال: كان يتعمد الكذب وأن ذلك هو أهون من الكفر، ثم صرحوا بأن مقالته كفر، وكان ممن يشهد عليه بتعمد الكذب، غير واحد من عقلاء الناس، وفضلائهم، من المشايخ والعلماء.
ومعلوم أن هذا من أبلغ الكذب على الله ورسوله، وأنه من أحق الناس بقوله: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللّهِ كَذِبًا أَوْ قَالَ أُوْحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ}[الأنعام: 93]، وكثير من المتنبئين الكذابين كالمختار بن أبي عبيد وأمثاله لم يبلغ كذبهم وافتراؤهم إلى هذا الحد.
بل مسيلمة الكذاب لم يبلغ كذبه وافتراؤه إلى هذا الحد، وهؤلاء كلهم كان يعظم النبي صلى الله عليه وسلم ويقر له بالرسالة، لكن كان يدعى أنه رسول آخر، ولا ينكر وجود الرب، ولا ينكر القرآن في الظاهر، وهؤلاء جحدوا الرب، وأشركوا به كل شيء، وافتروا هذه الكتب التي قد يزعمون أنها أعظم من القرآن، ويفضلون نفوسهم على النبي صلى الله عليه وسلم من بعض الوجوه، كما قد صرح به صاحب الفصوص عن خاتم الأولىاء.
وحدثني الثقة عن الفاجر التلمساني أنه كان يقول: القرآن كله شرك ليس فيه توحيد، و إنما التوحيد في كلامنا.
وأما الضلال والحيرة، فما مدح الله ذلك قط، ولا قال النبي صلى الله عليه وسلم: زدني فيك تحيرًا ولم يرو هذا الحديث أحد من أهل العلم بالحديث، ولا هو في شيء من كتب الحديث، ولا في شيء من كتب من يعلم الحديث، بل ولا من يعرف الله ورسوله، وكذلك احتجاجه بقوله: {كُلَّمَا أَضَاء لَهُم مَّشَوْاْ فِيهِ وَإِذَا أَظْلَمَ عليهمْ قَامُواْ} [البقرة: 20].
وإنما هذا حال المنافقين المرتدين، فإن الضلال والحيرة مما ذمه الله في القرآن، قال الله تعالى في القرآن: {قُلْ أَنَدْعُو مِن دُونِ اللّهِ مَا لاَ يَنفَعُنَا وَلاَ يَضُرُّنَا وَنُرَدُّ عَلَى أَعْقَابِنَا بَعْدَ إِذْ هَدَانَا اللّهُ كَالَّذِي اسْتَهْوَتْهُ الشَّيَاطِينُ فِي الأَرْضِ حَيْرَانَ} الآية [الأنعام: 71].
وهكذا يريد هؤلاء الضالون، المتحيرون، أن يفعلوا بالمؤمنين، يريدون أن يدعوا من دون الله ما لا يضرهم، ولا ينفعهم، وهي المخلوقات والأوثان، والأصنام، وكل ما عبد من دون الله، ويريدون أن يردوا المؤمنين على أعقابهم، يردونهم عن الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله والبعث بعد الموت، ويصيروا حائرين ضالين كالذي استهوته الشياطين في الأرض حيران له أصحاب يدعونه إلى الهدى، ائتنا، وقال تعالى: {وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ} إلى قوله: {يَعْمَهُونَ} [الأنعام: 110] أي: يحارون، وقال تعالى: {وَارْتَابَتْ قُلُوبُهُمْ فَهُمْ فِي رَيْبِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ} [التوبة: 45]، وقال تعالى: {اهدِنَا الصِّرَاطَ المُستَقِيمَ صِرَاطَ الَّذِينَ أَنعَمتَ عليهمْ غَيرِ المَغضُوبِ عليهمْ وَلاَ الضَّالِّينَ} [الفاتحة: 6، 7]. فأمر بأن
نسأله هداية الصراط المستقيم، صراط الذين أنعم عليهم، المغايرين للمغضوب عليهم وللضالين. وهؤلاء يذمون الصراط المستقيم، ويمدحون طريق أهل الضلال والحيرة مخالفة لكتب الله ورسله، ولما فطر الله عليه عباده من العقول والألباب.
(مجموع الفتاوي بن تيميه)