فصل
في ذكر بعض ألفاظ ابن عربي التي تبين ما ذكرنا من مذهبه، فإن أكثر الناس قد لا يفهمونه.
قال في فص يوسف بعد أن جعل العالم بالنسبة إلى الله كظل الشخص، وتناقض في التشبيه: فكل ما تدركه فهو وجود الحق في أعيان الممكنات، فمن حيث هوية الحق هو وجوده، ومن حيث اختلاف الصور فيه هو أعيان الممكنات، فكما لا يزول عنه باختلاف الصور اسم الظل، كذلك لا يزول عنه باختلاف الصور اسم العالم أو اسم سوى الحق، فمن حيث إحدىة كونه ظلا هو الحق؛ لأنه الواحد الأحد، ومن حيث كثرة الصور هو العالم، فتفطن وتحقق ما أوضحناه لك.
وإذا كان الأمر على ما ذكرته لك، فالعالم متوهم ما له وجود حقيقي، وهذا معنى الخيال، أي خيل لك أنه أمر زائد قائم بنفسه، خارج عن الوجود الحق، وليس كذلك في نفس الأمر، ألا تراه في الحس متصلا بالشخص الذي امتد عنه، يستحيل عليه الانفكاك عن ذلك الاتصال؛ لأنه يستحيل على الشيء الانفكاك عن ذاته، فاعرف عينك ومن أنت وما هويتك، وما نسبتك إلى الحق، وبما أنت حق، وبما أنت عالم، وسوى، وغير؟ وما شاكل هذه الألفاظ.
وقال في أول الفصوص بعد [فص حكمة إلهية في كلمة آدمية] و[فص حكمة نفسية، في كلمة شيثية]: وقد قسم العطاء بأمر الله، وإنما يكون عن سؤال وعن غير سؤال، وذكر القسم الذي لا يسأل، لأن شيئا هو هبة الله إلى أن قال: ومن هؤلاء من يعلم أن علم الله به في جميع أحواله: هو ما كان عليه في حال ثبوت عينه قبل وجودها، ويعلم أن الحق لا يعطيه إلا ما أعطاه عينه من العلم به، وهو ما كان عليه في حال ثبوته، فيعلم علم الله به من أين حصل، وما ثم صنف من أهل الله أعلى وأكشف من هذا الصنف، فهم الواقفون على سر القدر، وهم على قسمين:
منهم من يعلم ذلك مجملا، ومنهم من يعلم ذلك مفصلا.
والذي يعلمه مفصلا أعلى وأتم من الذي يعلمه مجملا، فإنه يعلم ما تعين في علم الله فيه، إما بإعلام الله إياه بما أعطاه عينه من العلم به، وإما بأن يكشف له عن عينه الثابتة، وعن انتقالات الأحوال عليها إلى ما لا يتناهى، وهو أعلى، فإنه يكون في علمه بنفسه بمنزلة علم الله به؛ لأن الأخذ من معدن واحد، إلا أنه من جهة العبد عناية من الله سبقت له، هي من جملة أحوال عينه، يعرفها صاحب هذا الكشف إذا أطلعه الله على ذلك أي على أحوال عينه فإنه ليس في وسع المخلوق إذا أطلعه الله على أحوال عينه الثابتة التي تقع صورة الوجود عليها أن يطلع في هذه الحال على اطلاع الحق على هذه الأعيان الثابتة في حال عدمها؛ لأنها نسب ذاتية لا صورة لها.
فبهذا القدر نقول: إن العناية الإلهية سبقت لهذا العبد بهذه المساواة في إفادتها العلم، ومن هنا يقول الله: {حتى نعلم} وهي كلمة محققة المعنى، ما هي كما يتوهم من ليس له هذا المشرب، وغاية المنزه أن يجعل ذلك الحدوث في العلم للتعلق، وهو أعلى وجه يكون للمتكلم يعقله في هذه المسألة، لولا أنه أثبت العلم زائدًا على الذات فجعل التعلق له لا للذات، وبهذا انفصل عن المحقق من أهل الله صاحب الكشف والشهود.
ثم نرجع إلى الأعطيات فنقول: إن الأعطيات إما ذاتية أو أسمائية، فأما المنح والهبات، والعطايا الذاتية، فلا تكون أبدًا إلا عن تجل إلهي، والتجلي من الذات لا يكون أبدًا إلا لصورة استعداد العبد المتجلى له، وغير ذلك لا يكون، فإذن المتجلي له ما رأى سوى صورته في مرآة الحق، وما رأى الحق، ولا يمكن أن يراه مع علمه أنه ما رأى صورته إلا فيه، كالمرآة في الشاهد، إذا رأيت الصور فيها لا تراها مع علمك أنك ما رأيت الصور أو صورتك إلا فيها.
فأبرز الله ذلك مثالا نصبه لتجليه الذاتي، ليعلم المتجلي له أنه ما رآه، وما ثم مثال أقرب ولا أشبه بالرؤية والتجلي من هذا، واجهد في نفسك عندما ترى الصورة في المرآة أن ترى جرم المرآة، لا تراه أبدًا البتة، حتى إن بعض من أدرك مثل هذا في صورة المرئي، ذهب إلى أن الصورة المرئية بين بصر الرائي، وبين المرآة، هذا أعظم ما قدر عليه من العلم، والأمر كما قلناه وذهبنا إليه.
وقد بينا هذا في الفتوحات المكية، وإذا ذقت هذا، ذقت الغاية التي ليس
فوقها غاية في حق المخلوق، فلا تطمع ولا تتعب نفسك في أن ترقى أعلى من هذا الدرج، فما هو ثم أصلا وما بعده إلا العدم المحض، فهو مرآتك في رؤيتك نفسك، وأنت مرآته في رؤيته أسماءه وظهور أحكامها، وليست سوى عينه، فاختلط الأمر وانبهم، فمنا من جهل في علمه فقال: والعجز عن درك الإدراك إدراك، ومنا من علم فلم يقل مثل هذا القول، وهو أعلى القول، بل أعطاه العلم السكوت ما أعطاه العجز، وهذا هو أعلى عالم بالله.
وليس هذا العلم إلا لخاتم الرسل، وخاتم الأولياء، وما يراه أحد من الأنبياء والرسل إلا من مشكاة الرسول الخاتم، ولا يراه أحد من الأولياء إلا من مشكاة الولي الخاتم، حتى إن الرسل لا يرونه متى رأوه إلا من مشكاة خاتم الأولياء، فإن الرسالة والنبوة أعنى نبوة التشريع ورسالته ينقطعان، والولاية لا تنقطع أبدا.
فالمرسلون من حيث كونهم أولىاء، لا يرون ما ذكرناه إلا من مشكاة خاتم الأولياء، فكيف من دونهم من الأولياء؟ وإن كان خاتم الأولياء تابعا في الحكم لما جاء به خاتم الرسل من التشريع، فذلك لا يقدح في مقامه، ولا يناقض ما ذهبنا إليه، فإنه من وجه يكون أنزل، كما أنه من وجه يكون أعلى.
وقد ظهر في ظاهر شرعنا ما يؤيد ما ذهبنا إليه في فضل عمر، في أسارى بدر بالحكم فيهم، وفي تأبير النخل، فما يلزم الكامل أن يكون له التقدم في كل شيء، وفي كل مرتبة، وإنما نظر الرجال إلى التقدم في مرتبة العلم بالله، هنالك مطلبهم، وأما حوادث الأكوان فلا تعلق لخواطرهم بها، فتحقق ما ذكرناه.
ولما مثل النبي صلى الله عليه وسلم النبوة بالحائط من اللبن وقد كمل سوى موضع لبنة فكان النبي صلى الله عليه وسلم تلك اللبنة، غير أنه صلى الله عليه وسلم لا يراها إلا كما قال لبنة واحدة.
وأما خاتم الأولياء، فلابد له من هذه الرؤية، فيرى ما مثل به رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيرى في الحائط موضع لبنتين، واللبن من ذهب وفضة، فيرى اللبنتين اللتين ينقص الحائط عنهما ويكمل بهما، لبنة ذهب ولبنة فضة، فلابد من أن يرى نفسه تنطبع في موضع تينك اللبنتين فيكون خاتم الأولياء تينك اللبنتين، فيكمل الحائط.
والسبب الموجب لكونه رآها لبنتين: أنه تابع لشرع خاتم الرسل في الظاهر، وهو موضع اللبنة الفضة وهو ظاهره، وما يتبعه فيه من الأحكام كما هو آخذ عن الله تعالى في السر ما هو بالصورة الظاهرة متبع فيه؛ لأنه رأى الأمر على ما هو عليه، فلابد أن يراه هكذا، وهو موضع اللبنة الذهبية في الباطن، فإنه آخذ من المعدن الذي يأخذ منه الملك، الذي يوحى به إلى الرسول.
فإن فهمت ما أشرت به فقد حصل لك العلم النافع، فكل نبي من لدن آدم إلى آخر نبي، ما منهم أحد يأخذ إلا من مشكاة خاتم النبيين، وإن تأخر وجود طينته، فإنه بحقيقته موجود، وهو قوله صلى الله عليه وسلم: "كنت نبيا وآدم بين الماء والطين"، وغيره من الأنبياء ما كان نبيا إلا حين بعث.
وكذلك خاتم الأولياء، كان وليًا وآدم بين الماء والطين، وغيره من الأولياء ما كان وليا إلا بعد تحصيله شرائط الولاية، من الأخلاق الإلهية، والاتصاف بها من أجل كون الله يسمى بالولي الحميد.
فخاتم الرسل من حيث ولايته نسبته مع الختم للولاية، مثل نسبة الأنبياء والرسل معه، فإنه الولي الرسول النبي.
وخاتم الأولياء الولي الوارث، الآخذ عن الأصل المشاهد للمراتب، وهو حسنة من حسنات خاتم الرسل محمد صلى الله عليه وسلم، مقدم الجماعة، وسيد ولد آدم في فتح باب الشفاعة، فعين بشفاعته حالا خاصا ما عمم، وفي هذه الحال الخاص تقدم على الأسماء الإلهية، فإن الرحمن ما شفع عند المنتقم في أهل البلاء إلا بعد شفاعة الشافعين، ففاز محمد بالسيادة في هذا المقام الخاص.
فمن فهم المراتب والمقامات لم يعسر عليه قبول مثل هذا الكلام. ا ه.
فهذا الفص قد ذكر فيه حقيقة مذهبه التي يبني عليها سائر كلامه، فتدبر ما فيه من الكفر الذي {تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدًّا} [مريم: 90]، وما فيه من جحد خلق الله وأمره، وجحود ربوبيته وألوهيته وشتمه وسبه، وما فيه من الإزراء برسله، وصديقيه والتقدم عليهم
بالدعاوى الكاذبة، التي ليس عليها حجة، بل هي معلومة الفساد بأدنى عقل وإيمان وأيسر ما يسمع من كتاب وقرآن، وجعل الكفار والمنافقين والفراعنة هم أهل الله وخاصته أهل الكشوف وذلك باطل من وجوه:
أحدها: أنه أثبت له عينًا ثابتة قبل وجوده ولسائر الموجودات، وإن ذلك ثابت له ولسائر أحواله وكل ما كان موجودًا من الأعيان والصفات والجواهر والأعراض فعينه ثابتة قبل وجوده. وهذا ضلال قد سبق إليه كما تقدم.
الثاني: أنه جعل علم الله بالعبد إنما حصل له من علمه بتلك العين الثابتة في العدم التي هي حقيقة العبد، لا من نفسه المقدسة، وأن علمه بالأعيان الثابتة في العدم وأحوالها تمنعه أن يفعل غير ذلك، وأن هذا هو سر القدر.
فتضمن هذا وصف الله تعالى بالفقر إلى الأعيان وغناها عنه، ونفى ما استحقه بنفسه، من كمال علمه وقدرته، ولزوم التجهيل والتعجيز، وبعض ما في هذا الكلام المضاهاة لما ذكره الله عمن قال فيه: {لَّقَدْ سَمِعَ اللّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّ اللّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاء} الآية [آل عمران: 181]، فإنه جعل حقائق الأعيان الثابتة في العدم غنية عن الله في حقائقها وأعيانها، وجعل الرب مفتقرا إليها في علمه بها، فما استفاد علمه بها إلا منها، كما يستفيد العبد العلم بالمحسوسات من إدراكه لها، مع غنى تلك المدركات عن المدرك.
والمسلمون يعلمون أن الله عالم بالأشياء قبل كونها بعلمه القديم الأزلي، الذي هو من لوازم نفسه المقدسة، لم يستفد علمه بها منها: {أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} [الملك: 14]. فقد دلت هذه الآية على وجود علمه بالأشياء من وجوه انتظمت البراهين المذكورة لأهل النظر والاستدلال القياسي العقلي من أهل الكلام والفلسفة وغيرهم:
أحدها: أنه خالق لها، والخلق هو الإبداع بتقدير، وذلك يتضمن تقديرها في العلم قبل تكونها في الخارج.
الثاني: أن ذلك مستلزم للإرادة، والمشيئة والإرادة مستلزمة لتصور المراد والشعور به، وهذه الطريقة المشهورة عند أكثر أهل الكلام.
الثالث: أنها صادرة عنه، وهو سببها التام، والعلم بأصل الأمر وسببه يوجب العلم بالفرع المسبب، فعلمه بنفسه مستلزم العلم بكل ما يصدر عنه.
الرابع: أنه في نفسه لطيف يدرك الدقيق خبير يدرك الخفي، وهذا هو مقتضى العلم بالأشياء، فيجب وجود المقتضي لوجود السبب التام، فهو في علمه بالأشياء مستغن بنفسه عنها، كما هو غني بنفسه في جميع صفاته، ثم إذا رأى الأشياء بعد وجودها، وسمع كلام عباده ونحو ذلك؛ فإنما يدرك ما أبدع وما خلق، وما هو مفتقر إليه، ومحتاج من جميع وجوهه، لم يحتج في علمه وإدراكه إلى غيره البتة؛ فلا يجوز القول بأن علمه بالأشياء استفاده من نفس الأشياء الثابتة، الغنية في ثبوتها عنه. وأما جحود قدرته، فلأنه جعل الرب لا يقدر إلا على تجليه في تلك الأعيان الثابتة في العدم، الغنية عنه، فقدرته محدودة بها، مقصورة عليها، مع غناها عنه وثبوت حقائقها بدونه، وهذا عنده هو السر الذي أعجز الله أن يقدر على غير ما خلق، فلا يقدر عنده على أن يزيد في العالم ذرة، ولا ينقص منه ذرة، ولا يزيد في المطر قطرة، ولا ينقص منه قطرة، ولا يزيد في طول الإنسان ولا ينقص منه، ولا يغير شيئا من صفاته، ولا حركاته، ولا سكناته، ولا ينقل حجرًا عن مقره، ولا يحول ماء عن ممره، ولا يهدي ضالا ولا يضل مهتديا، ولا يحرك ساكنا ولا يسكن متحركا، ففي الجملة لا يقدر إلا على ما وجد؛ لأن ما وجد فعينه ثابتة في العدم، ولا يقدر على أكثر من ظهوره في تلك الأعيان.
وهذا التجهيل والتعجيز الذي ذكره، وزعم أنه هو سر القدر وإن كان قد تضمن بعض ما قاله غيره من الضلال ففيه من الكفر ما لا يرضاه غيره من الضالين.
فإن القائلين بأن المعدوم شيء يقولون ذلك في كل ممكن كان أو لم يكن، ولا يجعلون علمه بالأشياء مستفادًا من الأشياء قبل أن يكون وجودها، ولا أن خلقه وقدرته مقصورة على ما علمه منها، فإنه يعلم أنواعا من الممكنات لم يخلقها فمعلومه من الممكنات أوسع مما خلقه، ولا يجعلون المانع من أن يخلق غير ما خلق هو كون الأعيان الثابتة في العدم لا تقبل سوى هذا الوجود، بل يمكن عندهم وجودها على صفة أخرى، هي أيضا من الممكن الثابت في العدم.
فلا يفضي قولهم لا إلى تجهيل، ولا إلى تعجيز من هذا الوجه، وإنما
قد يقولون: المانع من ذلك أن هذا هو أكمل الوجوه وأصلحها، فعلمه بأنه لا أكمل من هذا يمنعه أن يريد ما ليس أكمل بحكمته، فيجعلون المانع أمرًا يعود إلى نفسه المقدسة، حتى لا يجعلونه ممنوعا من غيره.
فأين من لا يجعل له مانعًا من غيره، ولا راد لقضائه، ممن يجعله ممنوعا مصدودا؟ وأين من يجعله عالما بنفسه، ممن يجعله مستفيدًا للعلم من غيره؟ وممن هو غني عنه؟ هذا مع أن أكثر الناس أنكروا على من قال: ليس في الإمكان أبدع من هذا العالم.
الثالث: أنه زعم أن من الصنف الذي جعله أعلى أهل الله من يكون في علمه بمنزلة علم الله؛ لأن الأخذ من معدن واحد إذا كشف له عن أحوال الأعيان الثابتة في العدم، فيعلمها من حيث علمها الله، إلا أنه من جهة العبد عناية من الله سبقت له، هي من جملة أحوال عينه، يعرفها صاحب هذا الكشف إذا أطلعه الله على ذلك، فجعل علمه وعلم الله من معدن واحد.
الرابع: أنه جعل الله عالما بها بعد أن لم يكن عالما، واتبع المتشابه الذي هو قوله: {حَتَّى نَعْلَمَ}[محمد: 31]، وزعم أنها كلمة محققة المعنى، بناء على أصله الفاسد أن وجود العبد هو عين وجود الرب، فكل مخلوق علم ما لم يكن علمه، فهو الله علم ما لم يكن علمه.
وهذا الكفر ما سبقه إليه كافر، فإن غاية المكذب بقدر الله أن يقول: إن الله علم ما لم يكن عالما، أما أنه يجعل كل ما تجدد لمخلوق من العلم فإنما تجدد
لله، وأن الله لم يكن عالما بما علمه كل مخلوق، حتى علمه ذلك المخلوق، فهذا لم يفتره غيره.
الخامس: أنه زعم أن التجلي الذاتي، بصورة استعداد المتجلى والمتجلى له، ما رأى سوى صورته في مرآة الحق، وأنه لا يمكن أن يرى الحق مع علمه بأنه ما رأى صورته إلا فيه، وضرب المثل بالمرآة، فجعل الحق هو المرآة، والصورة في المرآة هي صورته.
وهذا تحقيق ما ذكرته من مذهبه: أن وجود الأعيان عنده وجود الحق، والأعيان كانت ثابتة في العدم، فظهر فيها وجود الحق، فالمتجلى له، وهو العبد لا يرى الوجود مجردًا عن الذوات، ما يرى إلا الذوات التي ظهر فيها الوجود، فلا سبيل له إلى رؤية الوجود أبدًا. وهذا عنده هو الغاية التي ليس فوقها غاية في حق المخلوق، وما بعده إلا العدم المحض، فهو مرآتك في رؤيتك نفسك، وأنت مرآته في رؤيته أسماءه، وظهور أحكامها.
وذلك لأن العبد لا يرى نفسه التي هي عينه إلا في وجود الحق، الذي هو وجوده، والعبد مرآته في رؤيته أسماءه وظهور أحكامها؛ لأن أسماء الحق عنده هي النسب والإضافات، التي بين الأعيان وبين وجود الحق، وأحكام الأسماء هي الأعيان الثابتة في العدم، وظهور هذه الأحكام بتجلي الحق في الأعيان.
والأعيان التي هي حقيقة العيان هي مرآة الحق، التي بها يرى أسماءه،
وظهور أحكامها، فإنه إذا ظهر في الأعيان، حصلت النسبة التي بين الوجود والأعيان وهي الأسماء وظهرت أحكامها وهي الأعيان ووجود هذه الأعيان هو الحق، فلهذا قال: وليست سوى عينه، فاختلط الأمر وانبهم.
فتدبر هذا من كلامه وما يناسبه، لتعلم ما يعتقده من ذات الحق وأسمائه وأن ذات الحق عنده هي نفس وجود المخلوقات، وأسماءه هي النسب التي بين الوجود والأعيان، وأحكامها هي الأعيان، لتعلم كيف اشتمل كلامه على الجحود للّه ولأسمائه، ولصفاته وخلقه وأمره، وعلى الإلحاد في أسماء اللّه وآياته، فإن هذا الذي ذكره غاية الإلحاد في أسماء اللّه وآياته، الآيات المخلوقة والآيات المتلوة، فإنه لم يثبت له اسمًا ولا آية؛ إذ ليس إلا وجودًا واحدًا، وذاك ليس هو اسما ولا آية، والأعيان الثابتة ليست هي أسماءه ولا آياته، ولما أثبت شيئين فرق بينهما بالوجود والثبوت وليس بينهما فرق اختلط الأمر عليه وانبهم.
وهذا حقيقة قوله، وسر مذهبه، الذي يدعى أنه به أعلم العالم بالله، وأنه تقدم بذلك على الصديق، الذي جهل فقال: العجز عن درك الإدراك إدراك، وتقدم به على المرسلين، الذين ما علموا ذلك إلا من مشكاته، وفيه من أنواع الكفر والضلال ما يطول عدها:
منها: الكفر بذات الله؛ إذ ليس عنده إلا وجود المخلوق.
ومنها: الكفر بأسماء الله؛ فإنها ليست عنده إلا أمور عدمية، فإذا قلنا: {الْحَمْدُ للّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ} [الفاتحة: 2، 3] فليس الرب عنده إلا نسبة إلى الثبوت.
السادس: أنه قال: فاختلط الأمر وانبهم، أو هو على أصله الفاسد مختلط منبهم، وعلى أصل الهدى والإيمان متميز متبين، قد بين الله بكتابه الحق من الباطل والهدى من الضلال.
قال: فمنا من جهل في علمه فقال: العجز عن درك الإدراك إدراك، وهذا الكلام مشهور عندهم نسبته إلى أبي بكر الصديق، فجعله جاهلا، وإن كان هذا اللفظ لم يحفظ عن أبي بكر، ولا هو مأثور عنه في شيء من النقول المعتمدة، وإنما ذكر ابن أبي الدنيا في كتاب الشكر نحوًا من ذلك عن بعض التابعين غير مسمى، وإنما يرسل عنه إرسالًا من جهة من يكثر الخطأ في مراسيلهم.
كما يحكون عن عمر أنه قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم، وأبو بكر إذا تخاطبا كنت كالزنجي بينهما. وهذا أيضا كذب باتفاق أهل المعرفة. وإنما الذي في الصحيح عن أبي سعيد الخدري قال: خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم على المنبر، فقال: "إن عبدًا خيره الله بين الدنيا والآخرة فاختار ذلك العبد ما عند الله" فبكى أبو بكر، فقال: بل نفديك بأنفسنا وأموالنا، أو كما قال.
فجعل الناس يقولون: عجبا لهذا الشيخ، يبكي أن ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم عبدًا خيره الله بين الدنيا والآخرة! فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم هو المخير، وكان أبو بكر هو أعلمنا به، فكان أبو بكر هو أعلمهم بمراد رسول الله صلى الله عليه وسلم ومقاصده في كلامه، وإن كانوا كلهم مشتركين في فهمه.
وهذا كما في الصحيح أنه قيل لعلى رضي الله عنه: هل ترك عندكم رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئا؟ وفي لفظ: هل عهد إليكم رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئا لم يعهده إلى الناس؟ فقال: لا والذي فلق الحبة وبرأ النسمة، إلا فهما يؤتيه الله عبدا في كتابه، وما في هذه الصحيفة: وفيها العقل، وفكاك الأسير، وألا يقتل مسلم بكافر. وبهذا الحديث ونحوه من الأحاديث الصحيحة، استدل العلماء على أن كل ما يذكر عن على وأهل البيت، من أنهم اختصوا بعلم خصهم به النبي صلى الله عليه وسلم دون غيرهم كذب عليهم، مثل ما يذكر منه الجَفْر، والبطاقة، والجدول، وغير ذلك وما يأثره القرامطة الباطنية عنهم، فإنه قد كذب على جعفر الصادق رضي الله عنه ما لم يكذب على غيره، وكذلك كذب على على رضي الله عنه وغيره من أئمة أهل البيت رضي الله عنهم كما قد بين هذا وبسط في غير هذا الموضع.
وهكذا يكذب قوم من النساك ومدعي الحقائق على أبي بكر وغيره، وأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يخاطبه بحقائق لا يفهمها عمر مع حضوره، ثم قد يدعون أنهم عرفوها، وتكون حقيقتها زندقة وإلحادًا. وكثير من هؤلاء الزنادقة والجهال قد يحتج على ذلك بحديث أبي هريرة، حفظت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم جرابين: أما أحدهما فبثثته فيكم، وأما الآخر فلو بثثته لقطعتم هذا الحلقوم. وهذا الحديث صحيح، لكن الجراب الآخر لم يكن فيه شيء من علم الدين، ومعرفة الله وتوحيده، الذي يختص به أولياءه.
ولم يكن أبو هريرة من أكابر الصحابة، الذين يخصون بمثل ذلك لو كان هذا مما يخص به بل كان في ذلك الجراب أحاديث الفتن، التي تكون بين المسلمين، فإن النبي صلى الله عليه وسلم أخبرهم بما سيكون من الفتن التي تكون بين المسلمين، ومن الملاحم التي تكون بينهم وبين الكفار.
ولهذا لما كان مقتل عثمان وفتنة ابن الزبير ونحو ذلك، قال ابن عمر: لو أخبركم أبو هريرة أنكم تقتلون خليفتكم، وتهدمون البيت وغير ذلك، لقلتم: كذب أبو هريرة، فكان أبو هريرة يمتنع من التحديث بأحاديث الفتن قبل وقوعها؛ لأن ذلك مما لا يحتمله رؤوس الناس وعوامهم.
وكذلك قد يحتجون بحديث حذيفة بن اليمان، وأنه صاحب السر الذي لا يعلمه غيره، وحديث حذيفة معروف، لكن السر الذي لا يعلمه غيره: هو معرفته بأعيان المنافقين الذين كانوا في غزوة تبوك، ويقال: إنهم كانوا هموا بالفتك بالنبي صلى الله عليه وسلم، فأوحى الله إلى النبي صلى الله عليه وسلم أمرهم، فأخبر حذيفة بأعيانهم، ولهذا كان عمر لا يصلي إلا على من صلى عليه حذيفة؛ لأن الصلاة على المنافقين منهي عنها.
وقد ثبت في الصحيح عن حذيفة، أنه لما ذكر الفتن، وأنه أعلم الناس
بها، بين أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يخصه بحديثها، ولكن حدث الناس كلهم قال: وكان أعلمنا أحفظنا.
ومما يبين هذا: أن في السنن أن النبي صلى الله عليه وسلم كان عام الفتح قد أهدر دم جماعة: منهم عبد الله بن أبي سرح، فجاء به عثمان إلى النبي صلى الله عليه وسلم ليبايعه، فتوقف عنه النبي صلى الله عليه وسلم ساعة، ثم بايعه وقال: "أما كان فيكم رجل رشيد ينظر إلى، وقد أمسكت عن هذا فيضرب عنقه؟". فقال رجل من الأنصار: يا رسول الله، هلا أومأت إلى؟ فقال: "ما ينبغي لنبي أن تكون له خائنة الأعين". فهذا ونحوه مما يبين أن النبي صلى الله عليه وسلم يستوى ظاهره وباطنه، لا يظهر للناس خلاف ما يبطنه، كما تدعيه الزنادقة من المتفلسفة والقرامطة وضلال المتنسكة ونحوهم.
السابع: أنه قال: "ومنا من علم فلم يقل مثل هذا، وهو أعلى القول، بل أعطاه العلم والسكوت ما أعطاه العجز، وهذا هو أعلى عالم بالله، وليس هذا العلم إلا لخاتم الرسل وخاتم الأولياء، وما يراه أحد من الأولياء والرسل إلا من مشكاة الرسول الخاتم، ولا يراه أحد من الأولياء إلا من مشكاة الولي الخاتم، حتى إن الرسل لا يرونه متى رأوه، إلا من مشكاة خاتم الأولياء.
فإن الرسالة والنبوة أعنى نبوة التشريع ورسالته ينقطعان، والولاية لا تنقطع أبدًا، فالمرسلون من كونهم أولىاء: لا يرون ما ذكرناه إلا من مشكاة خاتم الأولياء، فكيف من دونهم من الأولياء؟ وإن كان خاتم الأولياء تابعا في الحكم لما جاء به خاتم الرسل من التشريع، فذلك لا يقدح في مقامه، ولا يناقض ما ذهبنا إليه، فإنه من وجه يكون أنزل، كما أنه من وجه يكون أعلى إلى قوله: ولما مثل النبي صلى الله عليه وسلم النبوة بالحائط من اللبن.
ففي هذا الكلام من أنواع الإلحاد والكفر، وتنقيص الأنبياء والرسل ما لا تقوله لا اليهود ولا النصارى، وما أشبه في هذا الكلام بما ذكر في قول القائل: فخر عليهم السقف من تحتهم، أن هذا لا عقل ولا قرآن.
وكذلك ما ذكره هنا من أن الأنبياء والرسل تستفيد من خاتم الأولياء الذي بعدهم هو مخالف للعقل، فإن المتقدم لا يستفيد من المتأخر، ومخالف للشرع، فإنه معلوم بالاضطرار من دين الإسلام أن الأنبياء والرسل أفضل من الأولياء، الذين ليسوا أنبياء ولا رسلا.
وقد يزعم أن هذا العلم الذي هو عنده أعلى العلم وهو القول بوحدة الوجود وأن وجود الخالق هو وجود المخلوق، وحقيقة تعطيل الصانع وجحده، وهو القول الذي يظهره فرعون، فلم يكفه زعمه أن هذا حق، حتى زعم أنه أعلى العلم، ولم يكفه ذلك حتى زعم أن الرسل إنما يرونه من مشكاة خاتم الأولياء.
فجعل خاتم الأولياء أعلم بالله من جميع الأنبياء والرسل، وجعلهم يرون العلم بالله من مشكاته.
ثم أخذ يبين ذلك فقال: فإن الرسالة والنبوة أعني نبوة التشريعورسالته ينقطعان والولاية لا تنقطع أبدا. فالمرسلون من كونهم أولىاء لا يرون ما ذكرناه إلا من مشكاة خاتم الأولياء، فكيف بالأولياء الذين ليسوا أنبياء ولا رسلا؟ وذلك أنه لم يمكنهم أن يجعلوا بعد النبي صلى الله عليه وسلم نبيا ورسولا، فإن هذا كفر ظاهر، فزعموا أنه إنما تنقطع نبوة التشريع ورسالته، يعني: وأما نبوة التحقيق ورسالة التحقيق وهي الولاية عندهم فلم تنقطع، وهذه الولاية عندهم هي أفضل من النبوة والرسالة؛ ولهذا قال ابن عربي في بعض كلامه:
مقام النبوة في برزخ فويق الرسول ودون الولي
وقال في الفصوص في [كلمة عزيرية]: فإذا سمعت أحدًا من أهل الله تعالى يقول أو ينقل إليك عنه، أنه قال: الولاية أعلى من النبوة، فليس يريد ذلك القائل إلا ما ذكرناه.
أو يقول: إن الولي فوق النبي والرسول، فإنه يعني بذلك في شخص واحد وهو أن الرسول عليه السلام من حيث هو ولي، أتم منه من حيث هو نبي ورسول، لا أن الولي التابع له أعلى منه، فإن التابع لا يدرك المتبوع أبدًا فيما هو تابع له فيه، إذ لو أدركه لم يكن تابعًا له.
وإذا حوققوا على ذلك قالوا: إن ولاية النبي فوق نبوته، وإن نبوته فوق رسالته؛ لأنه يأخذ بولايته عن الله، ثم يجعلون مثل ولايته ثابتة لهم، ويجعلون ولاية خاتم الأولياء أعظم من ولايته، وأن ولاية الرسول تابعة لولاية خاتم الأولياء الذي ادعوه. وفي هذا الكلام أنواع قد بيناها في غير هذا الموضع:
منها: أن دعوى المدعي وجود خاتم الأولياء على ما ادعوه باطل لا أصل له.
ولم يذكر هذا أحد من المعروفين قبل هؤلاء، إلا أبو عبد الله محمد بن على الترمذي الحكيم، في كتاب [ختم الولاية] وقد ذكر في هذا الكتاب ما هو خطأ وغلط، مخالف للكتاب والسنة والإجماع.
وهو رحمه الله تعالى وإن كان فيه فضل ومعرفة، و له من الكلام الحسن المقبول والحقائق النافعة أشياء محمودة، ففي كلامه من الخطأ ما يجب رده، ومن أشنعها ما ذكره في كتاب [ختم الولاية]، مثل دعواه فيه أنه يكون في المتأخرىن مَنْ درجته عند الله أعظم من درجة أبي بكر، وعمر، وغيرهما.
ثم إنه تناقض في موضع آخر، لما حكى عن بعض الناس أن الولي يكون منفردًا عن الناس، فأبطل ذلك واحتج بأبي بكر وعمر وقال: يلزم هذا أن يكون أفضل من أبي بكر وعمر، وأبطل ذلك.
ومنها: أنه ذكر في كتابه ما يشعر أن ترك الأعمال الظاهرة ولو أنها التطوعات المشروعة أفضل في حق الكامل ذي الأعمال القلبية، وهذا أيضا خطأ عند أئمة الطريق، فإن أكمل الخلق رسول الله صلى الله عليه وسلم، وخير الهدي هدى محمد صلى الله عليه وسلم، وما زال محافظا على ما يمكنه من الأوراد والتطوعات البدنية إلى مماته. ومنها: ما ادعاه من خاتم الأولياء، الذي يكون في آخر الزمان، وتفضيله وتقديمه على من تقدم من الأولياء، وأنه يكون معهم كخاتم الأنبياء مع الأنبياء. وهذا ضلال واضح، فإن أفضل أولىاء الله من هذه الأمة أبو بكر وعمر وعثمان وعلى، وأمثالهم من السابقين الأولىن من المهاجرين والأنصار، كما ثبت ذلك بالنصوص المشهورة.
وخير القرون قرنه صلى الله عليه وسلم، كما في الحديث الصحيح: "خير القرون قرني الذين بعثت فيهم، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم"، وفي الترمذي وغيره أنه قال في أبي بكر وعمر: "هذان سيدا كهول أهل الجنة، من الأولىن والأخرىن، إلا النبيين والمرسلين". قال الترمذي حديث حسن. وفي صحيح البخاري عن على رضي الله عنه أنه قال له ابنه: يا أبت، من خير الناس بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقال: يا بني، أبو بكر. قال: ثم من؟ قال: ثم عمر وروى بضع وثمانون نفسا عنه أنه قال: خير هذه الأمة بعد نبيها أبو بكر ثم عمر.
وهذا باب واسع، وقد قال تعالى: {فَأُوْلَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللّهُ عليهم مِّنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاء وَالصَّالِحِينَ} [النساء: 69]، وهذه الأربعة هي مراتب العباد: أفضلهم الأنبياء، ثم الصديقون، ثم الشهداء، ثم الصالحون. وقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم أن يفضل أحد منا نفسه على يونس بن متى مع قوله: {وَلَا تَكُن كَصَاحِبِ الْحُوتِ} [القلم: 48]، وقوله: {وَهُوَ مُلِيمٌ} [الذاريات: 40] تنبيها على أن غيره أولى ألا يفضل أحد نفسه عليه، ففي صحيح البخاري عن ابن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا يقولن أحدكم: إني خير من يونس بن مَتَّى". وفي صحيح البخاري أيضا عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما ينبغي لعبد أن يكون خيرًا من يونس ابن متى"، وفي لفظ: "أن يقول: أنا خير من يونس بن مَتى"، وفي البخاري أيضا عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من قال: أنا خير من يونس بن متى، فقد كذب"، وفي الصحيحين عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال يعني رسول الله: "لا ينبغي لعبد أن يقول: أنا خير من يونس بن متى"، "وفي الصحيحين عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم وفي لفظ: فيما يرويه عن ربه : "لا ينبغي لعبد أن يقول: أنا خير من يونس بن متى"، وهذا فيه نهي عام.
وأما ما يرويه بعض الناس أنه قال: "لا تفضلوني على يونس بن متى"، ويفسره باستواء حال صاحب المعراج، وحال صاحب الحوت، فنقل باطل وتفسير باطل، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: "اثبت أُحُد فما عليك إلا نبي، أو صديق أو شهيد"، وأبو بكر أفضل الصديقين.
ولفظ خاتم الأولياء لا يوجد في كلام أحد من سلف الأمة، ولا أئمتها ولا له ذكر في كتاب الله ولا سنة رسوله، وموجب هذا اللفظ أنه آخر مؤمن تقي، فإن الله يقول: {أَلا إِنَّ أولياء اللّهِ لاَ خَوْفٌ عليهمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ} الآية [يونس: 62]، فكل من كان مؤمنا تقيا كان لله وليا. وهم على درجتين: السابقون المقربون، وأصحاب اليمين المقتصدون، كما قسمهم الله تعالى في سورة فاطر، وسورة الواقعة، والإنسان، والمطففين.
وفي صحيح البخاري عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "يقول الله تعالى: من عادى لي وليًا فقد بارزني بالمحاربة، وما تقرب إلى عبدي بمثل أداء ما افترضت عليه، ولا يزال عبدي يتقرب إلىَّ بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها، وما ترددت عن شيء أنا فاعله ترددي عن قبض نفس عبدي المؤمن، يكره الموت وأكره مساءته ولابد له منه".
فالمتقربون إلى الله بالفرائض هم الأبرار المقتصدون أصحاب اليمين، والمتقربون إليه بالنوافل التي يحبها بعد الفرائض هم السابقون المقربون، وإنما تكون النوافل بعد الفرائض. وقد قال أبو بكر الصديق في وصىته لعمر بن الخطاب: اعلم أن لله عليك حقًا بالليل لا يقبله بالنهار، وحقًا بالنهار لا يقبله بالليل، وأنه لا يقبل النافلة حتى تؤدى الفريضة.
والاتحادية يزعمون أن قرب النوافل يوجب أن يكون عين الحق عين أعضائه، وأن قرب الفرائض يوجب أن يكون الحق عين وجوده كله، وهذا فاسد من وجوه كثيرة، بل كفر صريح، كما بيناه في غير هذا الموضع.
وإذا كان خاتم الأولياء آخر مؤمن تقي في الدنيا، فليس ذلك الرجل أفضل الأولياء، ولا أكملهم، بل أفضلهم وأكملهم سابقوهم، الذين هم أخص بأفضل الرسل من غيرهم، فإنه كلما كان الولي أعظم اختصاصا بالرسول، وأخذا عنه وموافقة له كان أفضل، إذ الولي لا يكون وليا لله إلا بمتابعة الرسول باطنا وظاهرًا، فعلى قدر المتابعة للرسول يكون قدر الولاية لله.
(مجموع الفتاوي بن تيميه)