كتاب آداب الكسب والمعاش وفضله وصحة المعاملة وما يتعلق بذلك
اعلم أن الله سبحانه وتعالى بلطيف حكمته جعل الدنيا دار تسبب واكتساب، تارة للمعاش، وتارة للمعاد، ونحن نورد آداب التجارات، والصناعات، وضرورة الاكتساب وأسبابها ونشرحها.
1ـ فصل في الكسب والحث عليه
قال الله تعالى : { وجعلنا النهار معاشاً} [النبأ :11]، فذكره فى معرض الامتنان، وقال تعالى:
{ وجعلنا لكم فيها معايش قليلاً ما تشكرون} [الأعراف:10] فجعلها نعمة، وطلب الشكر عليها، وقال تعالى: {ليس عليكم جناح أن تبتغوا فضلاً من ربكم} [البقرة : 198].
وفى الحديث أن النبى صلى الله عليه وآله وسلم قال : "طلب الحلال جهاد" و"إن الله ليحب العبد المحترف" وفى أفراد البخارى أن النبى صلى الله عليه وآله وسلم قال: " ما أكل أحد طعاماً قط خيراً من أن يأكل من عمل يده، وإن نبى الله داود كان يأكل من عمل يده". وفى حديث آخر : " أن زكريا عليه السلام كان نجاراً".
وقال ابن عباس رضى الله عنهما: كان آدم عليه السلام حراثاً، ونوح نجاراً، وإدريس خياطاً، وإبراهيم ولوط زرًّاعين، وصالح تاجراً، وداود زراداً، وموسى وشعيب ومحمد صلوات الله عليهم رعاة. وأما الآثار فروى أن لقمان الحكيم قال لابنه : يا بنى استعن بالكسب الحلال، فإنه ما افتقر أحد قط إلا أصابه ثلاث خصال: رقة فى دينه، وضعف فى عقله، وذهاب مروءته، وأعظم من هذه الخصال استخفاف الناس به. وقيل لأحمد بن حنبل : ما تقول فى رجل جلس فى بيته أو مسجده وقال: لا أعمل شيئا حتى يأتيني رزقي؟ فقال أحمد : هذا رجل جهل العلم، أما سمع قول النبى صلى الله عليه وآله وسلم : "إن الله جعل رزقي تحت ظل رحى"، وقال حين ذكر الطير: " تغدو خماصاً وتروح بطاناً". وكان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، يَتّجرون فى البر والبحر، ويعملون فى نخلهم، والقدوة بهم. وقال أبو سليمان الدارانى : ليس العبادة عندنا أن تصف قدميك وغيرك يتعب لك، ولكن أبدأ برغيفيك فاحرزهما ثم تعبد، فان قيل: قال أبوالدرداء : زاولت التجارة والعبادة فلم يجتمعا، فاخترت العبادة؟ فالجواب: أنا لا نقول: إن التجارة لا تراد لذاتها، بلا للاستغناء عن الناس، وإغناء العائلة، وإفاضة الفضل على الإخوان، فأما إن كان المقصود نفس المال وجمعه، والتفاخر ونحو ذلك، فهو مذموم، وليكن العقد الذى به الاكتساب جامعاً لأمور أربعة: الصحة، والعدل، والإحسان، والشفقة على الدين.
الأمر الأول :فى الصحة، فان كان العقد بيعا، فله ثلاثة أركان:العاقد والمعقود عليه ، واللفظ.
الركن الأول : أما العاقد، فينبغي للتاجر أن لا يعامل المجنون، لأنه غير مكلف، فلا يصح بيعه، ولا يعامل العبد إلا أن يعلم أنه مأذون له، وكذلك الصبى لا يعامل إلا أن يكون قد أذن له الأب أو الوصى، فيصير بمنزلة العبد المأذون له، وعند الشافعي لا تصح عقود الصبى، ومعاملة الأعمى عندنا صحيحة، يصح بيعه وشراؤه، وعند الشافعي لا تصح. وأما الظَّلمة ومن أكثرُ مالِهِ حرامُ، فلا ينبغي أن يعامل إلا فى شئ يعرف أن عينه حلال.
الركن الثاني: المعقود عليه، وهو المال المقصود نقله، ولا يجوز بيع ال..، لأنه نجس العين. فأما البغل وال.. فيجوز بيعهما، سواء قلنا: إنهما طاهران أو نجسان، ولا يجوز بيع الحشرات، ولا بيع العود والمزمار ، والصور المصنوعة من الطين ونحوه، ولا يجوز بيع ما لا يقدر على تسليمه حِساً ولا شرعاً، وأما الحِسُ فكالطير فى الهواء، والعبد الآبق ونحوهما، وأما الشرع فكالمرهون، وبيع الأم دون الولد الصغير، أو الولد دون الأم ، فهذا ممنوع تسليمه شرعاً.
الركن الثالث: اللفظ، وهو الإيجاب والقبول، فان تقدم القبول للإيجاب لم يصح فى إحدى الروايتين، ويصح فى الأخرى، سواء كان بلفظ الماضي أو بلفظ الطلب، فان تبايعا بالمعاطاة، فظاهر كلام أحمد صحة البيع. وقال القاضي أبو يعلى : لا يصح ذلك إلا فى الأشياء اليسيرة، وهذا أصلح الأقوال، أعنى أن تكون المعاطاة فى الأشياء المْحَقرة دون النفيسة، لجريان العادات بذلك، وينبغى من طريق الورع أن لا يترك الإيجاب والقبول ليخرج عن شبهة الخلاف، وقد شدد الله تعالى فى أمر الربا، فينبغي أن يحذر من الوقوع فيه، وهو قسمان: ربا الفضل، وربا النسيئة، فينبغي أن يعرف ذلك وما يجرى فيه الربا، ويحتاج أيضاً أن يعرف شروط السلم، والإجارة والمضاربة، والشركة، فان المكاسب لا تنفك عن هذه العقود المذكورة.
2ـ فصل في العدل واجتناب الظلم فى المعاملة
الأمر الثاني: وهو العدل، واجتناب الظلم فى المعاملة، ونعنى بالظلم ما يتضرر به الغير، وهو ينقسم إلى ما يعم ضرره وما يخص.
الأول: الاحتكار، وهو منهي عنه لما فيه من غلاء السعر وتضييق الأقوات على الناس.
وصفته : أن يستكثر من ابتياع الغلات فى الغلاء، ويتربص بها زيادة الأسعار، فأما إذا دخلت له غلة من ضيعته وحبسها، فليس محتكراً، وكذلك إذا كان الشراء فى حال الاتساع والرخص على صفة لا يضيق على الناس ، وفى الجملة تكره التجارة فى القوت، لأنه قوام الآدمي.
القسم الثاني: ما يخص ضرره، نحو أن يثنى على السلعة بما ليس فيها، أو يكتم بعض عيوبها فيضر بذلك المشترى. وقد قال النبى صلى الله عليه وآله وسلم: "من غشنا ليس منا" :
واعلم : أن الغش حرام فى البيوع، وفى الصناعات، وقد سئل الإمام أحمد عن رَفْو الثواب حتى لا يبين ، فقال: لا يجوز لمن يبيعه أن يخفيه. وينبغى للتاجر أن يحقق الوزن، ولا يتخلّص فى هذا حتى يرجح إذا أعطى، وينقص إذا أخذ، ومتى خلط العلاّف الطعام تراباً ثم كاله فهو مطفف، وكذلك القصاب إدا خلط عظما لم تجر العادة بمثله. وقد نُهى عن النَّجَش، وهو أن يزيد فى السلعة من لا يريد شراءها ليغر المشترى، ونهى عن التصرية.
3ـ فصل [في الإحسان بالمعاملة]
الأمر الثالث:فى الإحسان بالمعاملة، وقد أمر الله تعالى بالعدل والإحسان، فمن الإحسان المسامحة فى البيع ، وأن لا يغبنه فى الربح بما لا يتغابن فى العادة، فأما أصل المغابنة فمأذون فيه، لأن البيع للربح، ولكن يراعى فيه التقريب، فإن بذل المشترى زيادة على الربح المعتاد لشدة رغبته وحاجته، فينبغي أن يمتنع البائع من قبول ذلك، فإن ذلك من الإحسان. ومن ذلك أنه إذا أراد استيفاء الثمن أو الدين، فيحسن تارة بالمسامحة وتارة بحط البعض، وتارة بالإنظار، وتارة بالتساهل، وتارة فى جودة النقد. ومن الإحسان: أن يقيل من يستقيله، فإنه لا يستقيل إلا متضرر بالبيع، والأحاديث تشهد بفضل هذه الأمور المذكورة، وما لصاحبها من الأجر والثواب.
4ـ فصل [في شفقة التاجر على دينه]
الأمر الرابع:فى شفقة التاجر على دينه فيما يخصه ويعم آخرته، لا ينبغي للتاجر أن يشغله معاشه عن معاده، بل يراعى دينه، وإنما تتم شفقته على دينه بمراعاة ستة أشياء:
الأول: حسن النية فى التجارة، فلينو بها الاستعفاف عن السؤال، وكف الطمع عن الناس، والقيام بكفاية العيال، ليكون بذلك من جملة المجاهدين، ولينوا النصح للمسلمين .
الثاني: أن يقصد القيام فى صناعته أو تجارته بفرض من فروض الكفايات، فإن الصناعة والتجارة لو تركت بطل المعاش، إلا أن من الصناعة ما هو مهم ومنها ما يستغني عنه لكونه متعلقاً بالزينة أو طلب التنعم، فليشتغل بصناعة مهمة، ليكون فى قيامه بها كافياً عن المسلمين مهماً، وليتجنب صناعة الصياغة، والنقش، وتشييد البنيان بالجص، وجميع ما يزخرف به، فانه مكروه.
ومن المعاصي: خياطة الخياط القباء الديباج للرجل، ويكره أن يكون جزاراً، لأنه يوجب قساوة القلب، أو حجاماً، أو كناساً لما فيه مباشرة النجاسة، وفى معناه الدباغ. ولا يجوز أخذا الأجرة على تعليم القرآن، والعبادات، وفروض الكفايات.
الثالث: أن لا يمنعه سوق الدنيا عن سوق الآخرة، وسوق الآخرة المساجد، فينبغي أن يجعل أول النهار إلى وقت دخول السوق لآخرته، فيواظب على الأوراد، وقد كان صالحو السلف من التجار يجعلون أول النهار وآخره للآخرة، ووسطه للتجارة، وإذا سمع أذان الظهر والعصر، فينبغي أن يترك المعاش اشتغالاً بأداء الفرض.
الرابع: أن يلازم ذكر الله تعالى فى السوق، ويشتغل بالتسبيح والتهليل.
الخامس: أن لا يكون شديد الحرص على السوق والتجارة، فلا يكون أول من يدخل السوق، ولا آخر من يخرج منها.
السادس: أن لا يقتصر على اجتناب الحرام بل يتوقى مواقع الشبه ومواضع الريب، ولا يقف مع الفتاوى.
5ـ بيان الحلال والحرام
اعلم: أن طلب الحلال فرض على كل مسلم ، وقد ادعى كثير من الجهال عدم الحلال، وقالوا: لم يبق منه إلا الماء الفرات، والحشيش النبات، وماعدا ذلك فقد أفسدته المعاملات الفاسدة، فلما وقع لهم هذا، وعلموا أنه لا بد لهم من الأقوات توسعوا في الشبهة والحرام ، وهذا من الجهل، وقلة العلم، فإن في "الصحيحين" من حديث النعمان بن بشير رضى الله عنه، أن النبى صلى الله عليه وآله وسلم قال: "الحلال بين ، والحرام بين ، وبينها أمور مشتبهات". ولما كانت هذه الدعوى من هؤلاء الجهال بدعة قد عم ضررها، واستطار فى الدين شررها، وجب كشف الغطاء عن فسادها بالإرشاد إلى مدرك الفرق بين الحلال والشبهة.
ونحن نوضح ذلك في أقسام:
القسم الأول : في فضيلة طلب الحلال، وذم الحرام، ودرجات الحلال والحرام. قال الله تعالى: { يا أيها الرسل كلوا من الطيبات واعملوا صالحاً} [المؤمنون : 51]، والطيبات : الحلال، فأمر بذلك قبل العمل، وقال في ذم الحرام: {ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل} [البقرة: 188]، إلى غير ذلك من الآيات. وعن أبى هريرة رضى الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : "يا أيها الناس إن الله طيب لا يقبل إلا طيباً" وذكر الحديث إلى قوله: ثم ذكر الرجل يطيل السفر، أشعث أغبر يمد يديه إلى السماء، يارب يارب ! ومطعمه حرام، ومشربه حرام، وملبسه حرام، وغذى بالحرام، فأنى يستجاب لذلك" رواه مسلم. وروى في ذلك غير حديث. وروى أن سعداً سأل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن تستجاب دعوته، فقال له " أطب طعمتك تستجب دعوتك" . وقد كان السلف ينظرون في الحلال ويدققون فيه ، فأكل أبو بكر الصديق رضى الله عنه شيئاً من شبهة ثم قاءه (1). (مختصر منهاج القاصدين)