فصل [في أحوال من يخالط الأمراء والعمال والظلمة]
اعلم: أن لك مع الأمراء والعمال والظلمة ثلاثة أحوال:
الحالة الأولى: أن تدخل عليهم وهى شرُّها: فقد روى عن النبى صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: " من أتى أبواب السلاطين افتتن" "وما ازداد عبد من السلطان قرباً إلا ازداد من الله بعداً" .
وقال حذيفة: إياكم ومواقف الفتن، فقيل: وما مواقف الفتن؟ قال : أبواب الأمراء، يدخل أحدكم على الأمير فيصدقه بالكذب، ويقول ما ليس فيه. وقال بعض الأمراء لبعض الزهاد: ألا تأتينا؟ فقال: أخاف إن أدنيتني فتنتني، وإن أقصيتنا حرمتني، وليس في يدك ما أريده، ولا في صدى ما أخافك عليه، وإنما أتاك من أتاك ليستغني بك عمن سواك، وقد استغنيت عنك بمن أغناك غنى.
فهذه الآثار تبين كراهية مخالطة السلاطين.وأيضاً فان الداخل على السلطان معرض لأن يعصى الله عز وجل، إما بفعله أو قوله أو سكوته.
أما الفعل: فإن الدخول عليهم في غالب الأحوال يكون إلى أماكن مغصوبة، ولو فرض أنه في موضع غير مغصوب، ففى الغالب يكون ما تحته أو ما يظله من خيمة أو نحوها من ماله الحرام، والانتفاع بذلك حرام ، ولو فرض ذلك حلالاً، فربما يقع في غيره من المحذورات، إما أن يسجد له، أو يتمثل له قائماً، ويخدمه، ويتواضع له بسبب ولايته التي هي آلة ظلمه.
والتواضع للظالم معصية، بل من تواضع لغنى لأجل غناه لا لمعنى آخر يقتضي التواضع، ذهب ثلثا دينه، فكيف إذا تواضع للظالم ؟! وتقبيل اليد له معصية، إلا أن يكون عند خوف، أو لإمام عادل، أو عالم يستحق ذلك، فأما غير ما ذكرنا، فلا يباح في حقهم إلا مجرد السلام.
وأما القول: فهو أن يدعو للظالم، أو يثنى عليه، أو يصدقه فيما يقول من باطل بصريح قوله، أو بتحريك رأسه، أو باستبشار في وجهه، أو يظهر له الحب والموالاة والاشتياق إلى لقائه، والحرص على طول بقائه، فإنه في الغالب لا يقتصر على السلام، بل يتكلم ولا يعدو كلامه هذه الأقسام. وقد جاء في الأثر: "من دعا لظالم بطول البقاء، فقد أحب أن يعصى الَّله". ولا يجوز دعاؤه له إلا أن يقول: أصلحك الَّله، أو وفقك الله، أو نحو ذلك.
وأما السكوت: فهو أن يرى في مجالسهم في الفرش الحرير، وأوانى الفضة، والملبوس المحرم على غلمانهم من الحرير، ونحو ذلك، فيسكت. وكل من رأى شيئاً من ذلك وسكت فهو شريك فيه، وكذا إذا سمع من كلامهم ما هو فحش وكذب وشتم وإيذاء، فإن السكوت عن ذلك كله حرام، لأنه يجب عليه الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر.
فإن قلت: إنه يخاف على نفسه، فهو معذور في السكوت.
قلنا: صدقت، إلا أنه مستغن عن أن يعرض نفسه لارتكاب ما لا يباح إلا بعذر، لأنه لو لم يدخل ويشاهد، لم يجب عليه الأمر والنهى، وكل من علم بفساد فى مكان، وعلم أنه إذا حضر لم يقدر على إزالته، لم يجز له أن يحضر.
9ـ فصل [في الدخول على الأمراء الظلمة بعذر]
فإن سلم مما ذكرنا، وهيهات، لم يسلم من فساد يتطرق إلى قلبه، لما يرى من توسعهم في التنعم، فيزدرى نعمة الَّله عليه ، ثم يقتدي به غيره في الدخول، ويكون مكثراً لسواد الظلمة.
وروى أن سعيد بن المسيب دعي إلى البيعة للوليد وسليمان ابني عبد الملك، فقال: لا أبايع اثنين ما اختلف الليل والنهار. فقالوا: ادخل من هذا الباب واخرج من الآخر، قال: لا والله لا يقتدي بى أحد من الناس، فجلد مائه وأُلْبِسَ الُمسُوح. فعلى ما بينا لا يجوز الدخول على الأمراء الظلمة إلا بعذرين:
أحدهما: إلزامُ من جهتهم يُخاف من الخلاف فيه الأذى.
والثاني: أن يدخل عليه السلطان زائراً، فجواب السلام لا بد منه.
وأما القيام والإكرام، فلا يحرم مقابلةً له على إكرامه، فإنه بإكرام العلم والدين مستحق للحمد، كما أنه بالظلم مستحق للذم. فإن دخل عليه وحده، وقد رأى أن يقوم إعزازاً للدين فهو أولى وأمثل. ولا بأس بالقيام على هذه النية. إن علم أن ذلك لا يورث فساداً في الرعية ولا يناله أذى من غضبه، فترك الإكرام بالقيام أولي، ثم يجب عليه أن ينصحه، ويُعّرفه تحريم ما يفعله مما لا يدرى أنه محرم. فأما إعلامه بتحريم الظلم وشرب الخمر، فلا فائدة فيه، بل عليه أن يخوفه من ركوب المعاصي مهما ظن أن التخويف يؤثر في قلبه، وعليه أن يرشده إلى المصالح. ومتى عرف طريقاً للشرع يحصل به غرض الظالم عرفه إياه.
الحال الثالث: أن يعتزل عنهم فلا يراهم ولا يرونه، والسلامة في ذلك، ثم ينبغي أن يعتقد بغضهم على ظلمهم، فلا يُحبّ لقاءهم، ولا يثنى عليهم، ولا يستخبرعن أحوالهم، ولا يقترب إلى المتصلين بهم، ولا يتأسف على ما يفوته بسبب مفارقتهم، كما قال بعضهم:: إنما بيني وبين الملوك يوم واحد، إما يوم مضى فلا يجدون لذته، وأنا وإياهم في غدٍ على وجلٍ، وإنما هو اليوم، فما عسى أن يكون في اليوم؟!
مسألة: إذا بعث إليك سلطان مالاً لتفرقه على الفقراء، وكان له مالك معين، لم يحل أخذه، وإن لم يكن له ، كان حكمه أن يتصدق به كما سبق بيانه، ويتولى تفرقته على الفقراء.
ومن العلماء من امتنع من أخذه، وإذا كان اكثر أموالهم الحرام، حرمت معاملتهم وما بنته الظلمة من القناطر والمساجد والسقايات، ينبغي أن ينظر فيه، فإن كانت تلك الأعيان التي بنيت بها لمالك معين، لم يجز العبور عليها إلا للضرورة، وإن لم يعرف مالكها جاز العبور عليها، والورع الامتناع، والله أعلم.(مختصر منهاج القاصدين)