فصل في درجات الحلال والحرام
أعلم : أن الحلال كله طيب، ولكن بعضه أطيب من بعض، والحرام كله خبيث، ولكن بعضه أخبث من بعض، كما أن الطيب يحكم على كل حلو بالحرارة،ولكنه يقول: هذا حار في الدرجة الأولى، وهذا في الدرجة الثانية، وهذا في الثالثة، وهذا في الرابعة. مثال ذلك في الحرام المأخوذ بعقد فاسد، حرام ولكنه ليس في درجة المغصوب على سبيل القهر، بل المغصوب أغلظ، إذ فيه إيذاء الغير، وترك طريق الشرع في الاكتساب، وليس في العقود الفاسدة إلى ترك طريق التعبد فقط، وكذلك المأخوذ ظلما من فقير أو صالح أو يتيم، أخبث وأغلظ من المأخوذ من قوى أو غنى أو فاسق.
7ـ فصل [في درجات الورع]
والورع له درجات أربع:
الدرجة الأولى: وهى درجة العدول عن كل ما تقتضي الفتوى تحريمه، وهذا لا يحتاج إلى أمثلة.
الدرجة الثانية : الورع عن كل شبة لا يجب اجتنابها، ولكن يستحب، كما يأتى في قسم الشبهات. ومن هذا قوله صلى الله عليه وآله وسلم "دع ما يريبك إلى ما لا يريبك ".
الدرجة الثالثة: الورع عن بعض الحلال مخافة الوقوع في الحرام.
الدرجة الرابعة:الورع عن كل ما ليس لله تعالى،وهو ورع الصديقين ، مثال ذلك ما روى عن يحيى بن يحيى النيسابوري رحمة الله عليه أنه شرب دواءً، فقالت له امرأته: لو مشيت في الدار قليلاً حتى يعمل الدواء، فقال: هذه مشية لا أعرفها، وأنا أحاسب نفسي منذ ثلاثين سنة.
فهذا رجل لم تحضره نية في هذه المشية تتعلق في الدين، فلم يقدم عليها، فهذا من دقائق الورع.
والتحقيق فيه أن الورع له أول وغاية، وبينهما درجات في الاحتياط، فكلما كان الإنسان أشد تشديداً ، كان أسرع جوازاً على الصراط، وأخف ظهراً، وتتفاوت المنازل في الآخرة بحسب تفاوت هذه الدرجات في الورع، كما تتفاوت دركات النار في حق الظلمة بحسب درجات الحرام، فإن شئت فزد في الاحتياط، وإن شئت فترخص، فلنفسك تحتاط وعليها تترخص.
القسم الثاني: في مراتب الشبهات وتمييزها عن الحلال والحرام، وحديث النعمان بن بشير رضى الله عنه نص في هذه الأقسام الثلاثة، وهى الحلال والحرام وما بينهما، والمشكل فيها هو المتوسط الذي لا يعرفه كثير من الناس، وهو الشبة. ونحن نكشف الغطاء عنها فنقول : الحلال المطلق الذي لا يتعلق بذاته صفة توجب تحريماً لعينه، ولا يتعلق بأسبابه ما يطرق إليه تحريماً أو كراهية. مثال ذلك الماء الذي يأخذه الإنسان من المطر قبل أن يقع على ملك أحد. الحرام المحض : ما فيه صفة محرمة ، كالشدة في الخمر ، والنجاسة في البول، أو حصل بسبب منهي عنه، كالمتحصل بالظلم والربا، فهذان الطرفان ظاهران، ويلتحق بهما ما تحقق أمره ، ولكن يحتمل تغيره، ولم يكن لذلك الاحتمال سبب ظاهر يدل عليه، فإن صيد البر والبحر حلال، إلا أنه من صاد ظبية أو سمكة، فإنه يحتمل أن يكون قد ملكها صياد ثم أفلتت، وهذا الاحتمال لا يتطرق إلى ماء المطر المختطف من الهواء، فمساكنة ذلك الاحتمال في الصيد ورع الموسوسين، لأنه وهم مجرد لا دلالة عليه، فلو دل عليه دليل، مثل أن يجد الظبية جرحا لا يقدر عليه، إلا بعد الضبط، كالكى، ويحتمل أن يكون غيره، فهذا موضع الورع. وحد الشبهة ما تعارض فيه اعتقادان صدرا عن شيئين مقتضيين لاعتقادين. ومثالات الشبهة كثيرة، والمهم منها مثالان:
المثال الأول: الشك في السبب المحلل أو المحرم، وينقسم إلى أربعة أنواع:
النوع الأول: أن يكون الحلُّ معلوماً من قبل، ثم يقع الشك في المحلل، فهذه شبهة يجب اجتنابها، ويحرم الإقدام عليها، مثاله أن يرى صيداً فيجرحه فيقع في الماء فيصادفه ميتاً، ولا يدرى هل مات بالغرق أو بالجرح؟ فهذا حرام، لأن الأصل التحريم.
النوع الثاني: أن يعرف الحل ويشك في المحرم، فيكون الأصل الحل، والحكم له، كما لو طار طائر، فقال رجل: إن كان هذا غراباً فامرأته طالق، وقال آخر : وإن لم يكن غراباً، فامرأته طالق، تم التبس الأمر، فإنا لا نقضي بالتحريم في واحد منها، ولكن الورع اجتنابهما وتطليقهما.
النوع الثالث: أن يكون الأصل التحريم، ولكن طرأ ما يوجب التحليل بظن غالب فهو مشكوك فيه، والغالب حِلُه، مثاله أن يرمى إلى صيد فيغيب عنه ثم يدركه ميتاً وليس عليه أثر سوى سهمه، فهذا الظاهر فيه الحل، لأن الاحتمال إذا لم يستند إلى دليل التحق بالوسوسة، فأما إن ظهر عليه أثر صدمة أو جراحة أخرى التحق بالنوع الأول.
النوع الرابع: أن يكون الحل معلوماً، ولكن يغلب على الظن طريان المحرم بسبب معتبر في غلبة الظن شرعاً، مثاله أن يؤدى اجتهاده إلى نجاسة أحد الإناءين بالاعتماد على علامة معينة توجب عليه الظن، فتوجب تحريم شربه، كما أوجب منع الوضوء به.
المثال الثاني: أن يختلط الحرام بالحلال، ويشتبه الأمر فيه. وذلك على أضرب:
أحدها: إذااختلطت ميتة بُمذكّاة، أو بعشرة من المذكيات، ونحو ذلك من العدد المحصور، ومثله أن تشتبه أخته بأجنبيات، فهذه شبهة يجب اجتنابها.
الثاني: أن يختلط حرام محصور بحلال غير محصور، كما لو اشتبهت أخته أو عشر رضائع بنسوة بلد كبير، فلا يلزم بهذا اجتناب نكاح أهل البلد، بل له أن ينكح من شاء منهن، لأن في تحريمهن حرجا كبيراً، وكذلك من علم أن مال الدنيا خالطه حرام قطعاً، لم يلزمه ترك الشراء والأكل، لأن في ذلك حرجاً ، وقد علم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه أن في الناس من يرابى، وما تركو الدراهم بالكلية، وأن مِجَنَّاً سُرِقَ في زمانه، وما تركوا شراء مجن، فاجتناب هذا من ورع الوسوسة.
الثالث: أن يختلط حرام لا يحصر بحلال لا يحصر، كحكم الأموال في زماننا هذا، فلا يحرم بهذا الاختلاط تناول شئ بعينه، إلا أن يقترن بتلك العين علامة تدل على أنه من الحرام نحو أن يأخذه من يد سلطان ظالم، فإن لم يكن له علامة، فتركه ورع، ولا يحرم ذلك ، لأنه قد علم في زمان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم والخلفاء بعده أن أثمان الخمور ودراهم الربا وغلول الغنيمة اختلطت بالأموال، وقد أدركت الصحابة نهب المدينة وتصرف الظلمة ولم يمنعوا من الشراء بالسوق، ولولا صحة ذلك لانسد باب جميع التصرفات فإن الفسق يغلب على الناس، لكن الأصل في الأموال الحل ، وإذا تعارض اصل وغالب، ولا أمارة على الغالب، حكم بالأصل، كما قلنا في طين الشوارع وأواني المشركين، فقد توضأ عمر رضى الله عنه من جرة نصرانية، مع أن مشربهم الخمر ومطعمهم الخنزير ولا يحترزون من نجاسة، وكانت الصحابة تلبس الفراء المدبوغة والثياب المصبوغة.ومن تأمل أحوال الدباغين والصباغين، علم غلبة النجاسة عليهم، فيدل ذلك على أنهم لم يكون يحترزون إلا من نجاسة مشاهدة، أو يكون عليها علامة، فأما الظن الذي يستفاد من رد الوهم إلى مجارى الأحوال، فلم يعتبروه، فان قيل قد كانوا يتوسعون في أمورالطهارة قلنا: إن أردت أنهم كان يصلون مع النجاسة فباطل، وإن أردت انهم احترزوا من كل نجاسة وجب اجتنابها فصحيح، وأما تورعهم عن الشبه، فكان بطريق كف النفس عما ليس به بأس مخافة ما به بأس، والنفس تميل إلى الأموال كيف كانت بخلاف الأنجاس، وقد كانوا يمتنعون مما يشغل قلوبهم من الحلال، والله أعلم.
القسم الثالث: من الكتاب: فى الحلال والحرام والبحث، والسؤال، والهجوم، والإهمال ومظانها.
اعلم: أنه لو قدم لك الطعام أو أُهديت لك هدية، أو أردت أن تشترى شيئاً من شخص فليس لك أن تقول : هذا مما لا أتحقق حله، فأريد أن أفتش عنه وليس لك أن تترك البحث مطلقاً، بل السؤال واجب مرة، ومندوب مرة، ومكروه مرة.
والقول الشافي فيه: أن مظنة السؤال الريبة، وهى تحصل إما من أمر يتعلق بالمال أو بصاحب المال، أما ما يتعلق بصاحب المال، فنحو أن يكون مجهولاً ، وهو الذي ليس عليه قرينة تدل على ظلمة، كزِيَّ الأجناد، ولا على صلاحه. كثياب أهل العلم والزهد، فها هنا لا يجب السؤال ولا يجوز، لأن فيه هتك المسلم، وإيذاءه، ولا يقال لهذا: إنه مشكوك فيه، لأن المشكوك فيه هو الذي تحصل فيه الريبة بدلالة، مثل أن يكون على خِلقة الأتراك، وأهل البوادي المعروفين بالظلم، وقطع الطريق، فهذا يجوز معاملته، لأن اليد تدل على الملك، وهذه الدلالات ضعاف، إلا أن الترك من الورع. وأما ما يتعلق بالمال. فنحو أن يختلط الحرام بالحلال، كما إذا طرح فى السوق أحمال من طعام مغصوب فاشتراها أهل السوق، فإنه لا يجب على من يشترى فى تلك البلدة من السوق أن يسأل عما يشتريه، إلا أن يظهر أن أكثر ما في أيديهم حرام، فعند ذلك يجب السؤال، فإن لم يكن الأكثر حراماً كان التفتيش ورعاً غير واجب. وكذلك نقول في رجل له مال حلال خالطه حرام، مثل أن يكون تاجراً يعامل معاملات صحيحة وُيرابي، فهذا إن كان الأكثر من ماله حراماً، لم تجز قبول ضيافته ولا هديته إلا بعد التفتيش، فإن ظهر أن المأخوذ من وجه حلال جاز، وإلا ترك ، وإن كان الحرام أقل، فالمأخوذ شبهة، والورع تركه.
واعلم: أن السؤال إنما يقع لأجل الريبة، فلا ينقطع إلا من حيث تنقطع الريبة المفضية له، بأن لا يكون المسؤول متهماً، فإن كان متهماً وعلمت أن له غرضاً في حضورك أو قبول هديته، فلا ثقة بقوله، وينبغى أن يسأل غيره.
القسم الرابع: في باب الحلال والحرام، وكيفيه خروج التائب عن المظالم المالية.
اعلم: أن من تاب وفى يده مال مختلط، فعليه تمييز الحرام وإخراجه، فإن كان معلوم العين ، فأمره سهل، وإن كان ملتبساً مختلطاً، فإن كان من ذوات الأمثال، كالحبوب والنقود والأدهان، وكان معلوم القدر، ميز ذلك القدر، فإن أشكل فله طريقان:
أحدهما: الأخذ بغالب الظن.
والثاني: الأخذ باليقين، وهو الورع.
فإذا أخرج المال، فإن كان له مالك معين، وجب صرفه إليه أو إلى وارثه، وإن كان لذلك المال زيادة ومنفعة، جمع ذلك كله وصرفه إليه، وإن يئس من معرفة المالك ولم يدر أمات عن وارث أم لا؟ فليتصدق به، وإن كان ذلك من مال الفيء والأموال المرصدة لمصالح المسلمين، صرف ذلك إلى القناطر والمساجد ومصالح طريق مكة وما ينتفع به كل من يمر من المسلمين.
مسألة: إذا كان في يده مال حلال وشبهة، فليخص نفسه بالحلال، وليقدم قوته وكسوته على أجرة الحجَّام والزيت وإسجار التنور، وأصل هذا قوله صلى الله عليه وآله وسلم فى كسب الحجام: "اعلِفْهُ ناضِحَك". ولو كان في يد أبويه حرام ، فليمتنع من مؤاكلتهما، فإن كان شبهة داراهما، فإن لم يقبلا تناول اليسير. وقد روى أن أم بشر الحافي ناولته تمرة فأكلها، ثم صعد الغرفة فقاءها.
القسم الخامس : في إدرار السلاطين وصلاتهم، وما يحل من مخالطة السلاطين الظلمة، ونحو ذلك.
اعلم: أن من أخذ مالاً من السلطان فلا بد أن ينظر في مدخل ذلك إلى السلطان من أين هو، وفى صفته التي يستحق بها الأخذ، وفى المقدار الذي يأخذه، هل يستحقه؟ وقد تورع جماعة عن ذلك، وكان فيهم من يأخذه فيتصدق به. وأما في هذا الزمان، فالاحتراز عنه أولى، لأنه قد علم طريق الأخذ، ثم لا ينال إلا بالذل والسؤال والسكوت على الإنكار. وقد كان بعض السلف لا يأخذ، ويعلل بأن باقي المستحقين لم يأخذوا، وهذا ليس بشيء، لأنه يأخذ حقه ويبقى أولئك في مقام مظلوم، وليس المال مشتركاً.(|مختصر منهاج القاصدين)